النازية... بلفور وفلسطين
النازية... بلفور وفلسطينالنازية... بلفور وفلسطين

النازية... بلفور وفلسطين

عبده وازن

لا تحصى الروايات التي كتبت – وتكتب – في الغرب عن أوشفيتز والمحارق النازية التي سيق إليها بعض يهود أوروبا، وغالباً ما تحظى هذه الروايات برواج وترحاب وتحوز جوائز، حتى وإن كان كثير منها عادياً أو دون المعايير الروائية الراسخة. ولعل رواية «جدول الأعمال» التي فازت قبل أيام بجائزة غونكور الفرنسية الشهيرة خير مثال على «حمّى» النازية وأوشفيتز التي ما زالت تشيع في الوجدان الأوروبي العام والتي كلما أشرفت على الانطفاء تعمد «الآلة» الصهيونية العالمية إلى إذكائها وفتح الجرح الرهيب الذي أحدثته النازية في ذاكرة التاريخ الأوروبي. وليس مستهجناً أن تمثل آثام النازية، نتيجة الإلحاح الصهيوني واليهودي، عقدة ذنب في ضمير المثقفين الأوروبيين، وأن تصبح قضية أوشفيتز ضرباً من «التابو» الذي لا يمكن المس به.

فازت رواية «جدول الأعمال» (دار أكت سود) للكاتب إريك فويار بجائزة غونكور وفازت رواية أخرى عن النازية أيضاً ومحارقها عنوانها «اختفاء جوزف منغيل» (دار غراسيه) للكاتب أوليفييه غيز بجائزة رونودو التي لا تقل شأناً عن الجائزة الأولى... إنها «المصادفة» التي جعلت هاتين الروايتين النازيتين تحتلان واجهة باريس الأدبية، ويا لها من مصادفة. قبل إعلان اللوائح الطويلة ثم القصيرة لهاتين الجائزتين لم يكن متوقعاً فوز أيّ من هاتين الروايتين. فمعظم الصفحات الثقافية لم تولِ هاتين الروايتين اهتماماً بل هما غابتا عن ملفات «الموسم الروائي» في مجلات بارزة مثل «لو ماغازين ليتيرير» و «لير»، ولم يتناولهما النقد بصفتهما «حدثاً» روائياً بارزاً.

تسترجع رواية «جدول الأعمال» اليوم التاريخي، يوم العشرين من شباط (فبراير) 1933 الذي التقى فيه الفوهرر النازي جمعاً من رجال الصناعة الألمان داعياً إياهم إلى دعم نظامه وآلته العسكرية صناعياً، بغية تحقيق حلمه النازي وترسيخ قبضته الحديد. كان من بين الشركات الصناعية تلك شركات ما برحت حتى الآن تحتل الصدارة صناعياً: باير، أفغا، أوبل، سايمنس، تليفنكن... إلا أن الرواية لا تلبث أن تنتقل إلى صميم المشروع النازي، وخطوته الأولى حينذاك توحيد البلدان الناطقة بالألمانية في «ألمانيا الكبرى» التي يكون الفوهرر حاكمها المطلق. وفي العام 1936 يوقّع هتلر مع النمسا اتفاقاً ينصّ على ضمّه النمسا إلى ألمانيا. ثم لا يلبث أن يفرض، مدعوماً من النازيين النمسويين وبعض السياسيين المؤيدين له، على المستشار النمسوي، اتفاقاً آخر يرغمه على توقيعه، فتكون نتيجة الإرغام هذه اجتياح الجيش النازي النمسا... في مثل هذه الأجواء التاريخية و «التوثيقية» تدور هذه الرواية التي تفضح شناعة النازية التي دمرت ألمانيا مثلما دمرت أوروبا واقترفت أرهب الجرائم. رواية تاريخية إذاً، واقعية لا تخلو من سخرية تفترضها شخصية هتلر نفسه. وغالب الظن أن الرواية لو لم تستحضر النازية لما بدت تستحق الجائزة، وهذا ما دل عليه الاستقبال الفاتر لها صحافياً ونقدياً.

الرواية الثانية التي تحتل واجهة الموسم الأدبي في باريس عقب فوزها بجائزة رونودو هي نازية جداً، ونجح صاحبها في اختيار أحد المجرمين النازيين الذي يدعى جوزف منغيل والذي سمي «ملاك الموت» بطلاً لها. كان منغيل هذا طبيباً يعمل في أوشفيتز، لكن مهمته لم تقم على مداواة المرضى أو الجرحى بل إجراء اختبارات رهيبة ووحشية على الأسرى اليهود، أطفالاً ونساء ورجالاً. تعذيب وتشريح وحرق الأسرى أحياء... عندما انتهت الحرب وهزمت النازية فرّ هذا المجرم إلى الأرجنتين. ولم يكن على الروائي أوليفييه غيز إلا أن يلاحقه في منفاه الأميركي اللاتيني ويسترجع جرائمه الراعبة.

هل هي مصادفة حقاً أن تفوز هاتان الروايتان النازيتان «العاديتان» بجائزتيين كبيرتين في لحظة تاريخية أليمة كان الفلسطينيون يحيون ذكراها المئة وهي «وعد بلفور»؟ ترى ألا يماثل هذا «الوعد» البريطاني والأوروبي، المشروع النازي في شؤمه وعنفه وجرائميته؟ ألا يستحق أن يمثل أيضاً عقدة في ضمير بريطانيا وأوروبا وأميركا؟ لقد أتاح هذا الوعد لصهاينة العالم فرصة ممارسة دور الجلاد الذي أدّاه هتلر ولكن ضد شعب فلسطين. كان هذا الوعد المريب هو الحافز «الشرعي» دولياً على مقاتلة الشعب واضطهاده وطرده من أرضه وتشريده. لم تكتب رواية غربية واحدة عن وعد بلفور ولا عن فلسطين والمجازر التي ارتكبها – ولا يزال - جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد أهل الأرض. لم يكتب روائي أوروبي أو أميركي رواية عن إحدى أشد مآسي القرن العشرين قهراً وظلماً وبؤساً. محارق النازية تفيض بها الروايات والأفلام والأعمال المسرحية في العالم أجمع. أما مأساة فلسطين فلم يروها سوى العرب. وقد يكون الكاتب الفرنسي «المنشق» جان جينيه هو الغربي الوحيد الذي كتب رواية فلسطين والفلسطينيين في كتابه البديع «أسير عاشق» الذي أثار حفيظة الإسرائيليين والصهاينة في العالم. ترى أليس معيباً جداً ألا تدفع المأساة الفلسطينية الروائيين الغربيين إلى استيحائها في أعمال تليق بها؟

الحياة

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com