أوباما حول المطرقة الأمريكية: ليست كل مشكلة مسمارا!
أوباما حول المطرقة الأمريكية: ليست كل مشكلة مسمارا!أوباما حول المطرقة الأمريكية: ليست كل مشكلة مسمارا!

أوباما حول المطرقة الأمريكية: ليست كل مشكلة مسمارا!

كان طبيعياً أن تحظى سورية بالصدارة في خطبة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، حول أدوار الولايات المتحدة في السياسة الخارجية والسطوة العسكرية والقيادة الكونية، التي ألقاها قبل يومين، خلال حفل تخريج دفعة جديدة من ضباط «وست بوينت»، الكلية العسكرية الأمريكية الأشهر. ولقد بدأ الملفّ باستعراض وجهتَيْ نظر، حول ما يترتب على أمريكا من واجبات هناك؛ ثمّ انتهى إلى وضع سياساته في منزلة ثالثة، ليست وسيطة تماماً، وإنْ كانت تستعير اعتبارات مشتركة تتوفر في الرأيين معاً، وتركن إلى الكثير من البلاغة المكرورة والتعميم الغائم.

وجهة النظر الأولى تحذّر من تداخلات لا تمسّ أمن أمريكا أو ازدهارها الاقتصادي، ويمثّلها اليوم مَنْ يصفون أنفسهم بـ»الواقعيين»، ممّن يعتبرون أنّ الولايات المتحدة ليست معنية بحلّ نزاعات على شاكلة سورية. وليس مفاجئاً أنّ هذا الرأي ـ كما يشير أوباما، مستذكراً الحروب باهظة الأثمان وتحديات الداخل ـ يتشاطره أمريكيون كثر. الرأي الآخر، المختلف، يأتي من «دعاة تدخّل على اليسار وعلى اليمين»، يساجل بأنّ إهمال هذه النزاعات يشكّل خطراً على أمن أمريكا في نهاية المطاف، وأنّ استخدام الولايات المتحدة للقوّة هو الضمان النهائي ضدّ الفوضى، و»العجو عن التحرك في وجه الوحشية السورية أو الاستفزازات الروسية لا ينتهك ضميرنا فقط، بل يحرّض على تصعيد العدوان في المستقبل».

حسناً، فما هو «الخطّ القاعدي»، إذا جاز القول، الذي يصنع المنزلة الثالثة كما يعتنقها أوباما؟ هنا تفاصيل البديل: «لكني لا أعتقد أن أياً من الرأيين يتجاوب تماماً مع مطالب هذه البرهة. من الصحيح تماماً أن نزعة الانعزال الأمريكية ليست خياراً في القرن الحادي والعشرين. ولا نملك خيار تجاهل ما يجري خارج حدودنا. وإذا لم تكن الموادّ النووية مؤمّنة، فإن هذا مصدر خطر على المدن الأمريكية. وإذْ تتوسع الحرب الأهلية السورية عبر الحدود، فإن الجماعات المتطرفة، المدرّبة على القتال، سوف تتزايد قدرتها على الوصول إلينا. وأي عدوان إقليمي يتواصل دون رادع، سواء في جنوب أوكرانيا، أو بحر الصين الجنوبي، أو في أي مكان آخر في العالم، سوف يؤثر في نهاية المطاف على حلفائنا، ويمكن أن يستجرّ جيشنا. لا يمكننا أن نتجاهل ما يحدث خارج حدودنا». ومن جانب آخر، يتجاوز «هذه الاعتبارات الضيقة»، يتابع أوباما: «أؤمن بأننا أمام واجب، ومصلحة ذاتية الإلزام، في التأكد من أن أبناءنا وأحفادنا سوف يكبرون في عالم لا تُختطف فيه طالبات المدارس ولا يُذبح فيه الأفراد بسبب قبيلة أو عقيدة أو يقين سياسي. وأؤمن أن عالماً أكثر حرية وتسامحاً ليس واجباً أخلاقياً فقط، بل سوف يساعد في إبقائنا آمنين».

جميل، إذاً، بمعنى أنه كلام عامّ وتعميمي وبلاغي وغائم، من جهة أولى؛ ومنطقي، بل يتوجب الترحيب به من رئيس للقوّة العظمى الأولى في الكون، يسير على نقيض غالبية أسلافه في البيت الأبيض، فيبشّر بإغلاق الحروب القائمة، بدل إشعال المزيد منها. ولكن… وثمة هنا «لكن» كبيرة ومتخمة بالدلالات المناقضة، ماذا عن ترجمة (وربما سلسلة ترجمات!) هذه الأقوال ذاتها، على الأرض أوّلاً، في البرهة الراهنة؛ وخلال ستّ سنوات من ولايتَيْ أوباما، ثانياً؟ ألم يبدأ عهده بتعيين عدد من المستشارين في شؤون الأمن القومي ـ وفي ملفات مثل معتقل غوانتانامو، والقضاء العسكري الأمريكي خارج الولايات المتحدة، خصوصاً، وحكاية «الحرب على الإرهاب» عموماً ـ لا يُعرف عنهم حنان الحمائم بل حدّة الصقور الكاسرة: أنتوني ليك، مستشار الأمن القومي الأسبق في إدارة بيل كلنتون، والمهندس الفعلي وراء غزو هاييتي؛ وزبغنيو برجنسكي، الغنيّ عن التعريف، مستشار الأمن القومي الأسبق في إدارة جيمي كارتر، ومهندس «صناعة الجهاد» و»الأفغان العرب» وسواهما من مسمّيات توريط السوفييت في أفغانستان؟

وحتى قبل انتخابه للرئاسة الأولى، في خطاب مشهود أمام «مجلس شيكاغو للشؤون العالمية»، نيسان (أبريل) 2007، ألم يعلن أوباما «خمس طرق لكي تعود أمريكا إلى قيادة العالم، حين أكون أنا الرئيس»؛ حيث الثانية بينها هي «بناء أوّل نظام عسكري حقّ في القرن الحادي والعشرين، وإظهار الحكمة في كيفية نشره»، والإبقاء عليه «في وضعية الهجوم، من جيبوتي إلى قندهار»؛ وحيث «لا ينبغي لأيّ رئيس أن يتردد في استخدام القوّة ـ حتى من جانب واحد، إذا اقتضت الضرورة ـ لحماية أنفسنا والدفاع عن مصالحنا الحيوية»؟ ألم يبرّر، في الخطاب إياه، عمليات «عاصفة الصحراء» وحرب تدمير البنية التحتية المدنية للعراق وردّه إلى القرون الوسطى: في «مواجهة الدول العاصية»، على الولايات المتحدة أن تستخدم «الترسانة القصوى من القوّة الأمريكية»؟

هل كان ذلك الخطاب يرجّع أصداء ما سمعه العالم، مراراً وتكراراً، من جورج بوش… الابن، وليس الأب؛ خاصة في هذه الفقرة التمهيدية، التي تسبق استعراض المقترحات الخمسة: «إنني أرفض الفكرة القائلة بأنّ اللحظة الأمريكية قد انطوت. وأنفر من المشككين الساخرين الذين يزعمون أنّ هذا القرن الجديد لن يكون أمريكياً بدوره. ونحن، بحسب كلمات الرئيس فرنكلين روزفلت، نقود العالم في محاربة الشرور الوشيكة وتوطيد الخير الأقصى. نعم، ما أزال مؤمناً بأنّ أمريكا هي أمل الأرض الأخير، والأفضل»؟ وعلى المستوى التطبيقي، ورغم أنه لم ينخرط في حرب جديدة، فإنّ أوباما ليس البتة استثناء القاعدة بالمقارنة مع أسلافه، من حيث استخدام القوّة العسكرية وأدوات البطش والترهيب. والبرهان الأبسط هو أنّ المئات قُتلوا، في الباكستان وأفغانستان واليمن والصومال، بأوامر شخصية من أوباما، عبر طائرات أمريكية من غير طيار؛ وأنّ نسبة المدنيين، العزّل والأبرياء، تراوحت بين 22 و58 بالمئة.

وهكذا، في تسعة أعشار القضايا ذات الصلة بالسياسة الخارجية، ظلت أفكار أوباما تتراوح بين إعادة إنتاج سياسات الإدارات السابقة، وخاصة في أحقاب ما بعد هزّة 11/9؛ أو إعادة صياغة لها، تجميلية ومنافقة. المثال الأطرف هو تفسير أوباما لحال العداء التي يحملها العالم، في أربع رياحه كما يصحّ القول، تجاه صورة أمريكا عموماً: «بعض السبب يعود إلى سوء الإدراك أو سوء المعلومات حول بلدي. بعضها الآخر يعود إلى معارضة سياسات محددة، واليقين بأنّ أمريكا تصرّفت لوحدها في بعض القضايا، دون الاكتراث بمصالح الآخرين. وهذا ما أدّى إلى نزعة عداء شبه انعكاسية، كانت غالباً تُستخدم كذريعة لامتناعنا عن المشاركة في العمل الجماعي».

وفي العودة إلى «الخطّ القاعدي»، كما اختصرته خطبة تخريج ضبّاط وست بوينت، ثمة هذه الفلسفة/الفذلكة: «يتوجب على أمريكا أن تقود، لإننا إنْ لم نفعل، فلا أحد سيفعل»؛ ولكن: «العمل العسكري من جانب الولايات المتحدة لا يمكن أن يكون المكوّن الوحيد ـ أو حتى الرئيسي ـ لقيادتنا تلك، في كلّ لحظة»؛ وبالتالي: «مجرّد أننا نملك المطرقة الأفضل، أمر لا يعني أنّ كلّ مشكلة مسماراً»! صحيح، بالطبع، حتى إذا كانت كلمة حقّ يُراد بها الباطل: كأن يُرسم لنظام بشار الأسد خطّ أحمر/مسمار، هو استخدام الأسلحة الكيماوية؛ وأن يغمض أوباما عينيه عن أيّ، وكلّ، أسلحة تدمير جماعية أخرى، من القاذفة إلى صاروخ الـ»سكود» والبرميل الهمجي، مروراً بالغازات السامة المختلفة.

هنا لا تنقلب المطرقة من فولاذ إلى مخمل، فحسب؛ بل يصبح أيّ مسمار بمثابة علامة تعجّب… لا تفيد أيّ عجب، أيضاً!

*القدس العربي

Related Stories

No stories found.
logo
إرم نيوز
www.eremnews.com