من القواعد الفقهية التي ثبتت صحتها بالدليل النقلي والاستدلال العقلي قاعدة: (لا إنكار في مسائل الخلاف)، وهي قاعدة جليلة تعبر عن جملة من ضوابط الاختلاف وضبط الحياة العلمية والاجتماعية والفكرية، وتؤصل لمسيرة الهدى والرشد لشريعة الإسلام المباركة في المجتمعات..
لقد وقع شطط كبير في استعمال هذه القاعدة خاصة من طرف فئة حاولت غلوا رفضها عملا رغم الإقرار بها نظريا.
لقد تناول عدد من العلماء شرح هذه القاعدة وبيانها، واستعملها الصحابة فيما وقع بينهم من اختلاف، وقد أقر الرسول صلى الله عليه وسلم الاختلاف بينهم من غير نكير بعضهم على بعض، وسار علماء المسلمين المحققين على ذلك النهج في الحياة العلمية والفقهية والاجتماعية عبر قرون طويلة.
إنه على ضوء العمل الحقيقي بهذه القاعدة ظهرت قواعد أخلاقية وعلمية في المجتمعات ذات الحراك الفقهي، فأظهرت أمثل صور الاعتدال والتسامح والتراحم والإبداع العلمي في البحث بين أهل العلم وطلابه وأفراده، ولذلك نماذج كثيرة عبر تاريخ الأمة الإسلامية التي حققت قيم التعايش الإنساني والديني عند الاختلاف.
لقد أصبح اليوم الاهتمام بتناول هذا الموضوع ضرورة، خاصة مع تعالي الأصوات بأهمية الحوار الموضوعي، وشيوع مبدأ الرأي الآخر، وقبول الآخر والتعددية والمناداة بالتعايش السلمي بين المختلفين، حتى أصبحت هذه العناوين أسسا أخلاقية ومبادئ ثقافية عامة في أوساط المجتمعات المختلفة الناضجة فكريا، والتي أجادت فنون الحوار وكيفية إدارته، والمجادلة بالتي هي أحسن..
وأصبحت هذه العناوين مقياسا يدل على مدى التمتع بالظاهرة الحضارية والنضج الثقافي والديني عند الأفراد والجماعات، وبموجبها أصبح لكل أحد الحق بأن يعبر عن رأيه، ويحفظ حق الآخر في التعبير عن رأيه، وله أن يحاور من يختلف معه في إطار الاحترام وحفظ الحقوق والتعايش السلمي.
إن قاعدة (لا إنكار في مسائل الخلاف) تختزل كثيرا من تفاصيل مبادئ التعايش السلمي بين المختلفين، وتعبر عن السبق الإسلامي الفقهي، النظري والتطبيقي، لهذه المبادئ بضوابطها الشرعية، وأسسها الأخلاقية.
وتظهر أهمية هذا الموضوع من تفهم الآراء الفقهية التي تدور على الحرص على معرفة الحق في إطار التيسير الذي تدعو إليه الشريعة والتمسك بدلالات نصوصها تجردا للحق، وبعيدا عن الجمود والتقليد والتعصب، بخلاف ما أنتجته الحركات الإسلامية التي تغيرت في واقعنا المعاصر..
لقد أصبحت تحمل اتجاهات عصبية مرضية، مقارنة بالمذاهب الفقهية من السابق، حيث هيمن التعصب الحزبي فيها، والعصبية الفئوية، وتقديس نصوص مؤسسيها أو قادتها، حتى كادت تطمس أنوار الشريعة التي ادعت أنها قامت أصلا لنصرة الشريعة، ونشر تعاليمها، وجمع المسلمين حولها، قرآناً وسنة، فإذا بها مع طول الوقت تحاول جمع المسلمين حول نصوص قياداتها، وآرائهم، حتى أوشكت أن تضيع المعالم البارزة للدين، ومزقت الأخوة الإسلامية العامة، بالتعصب للأخوة الخاصة التي أهدرت الأخوة العامة في الدين وقضت على روابطها، وفرقت المسلمين دون اكتراث بما أوجبه الدين، الأمر بالاجتماع والنهي عن التفرق.
وكاد يتلاشى النصح الصادق، لما لحق أشخاص قيادات الاتجاه الواحد وأقوالهم وأفعالهم من هالات التقديس، التي عمقت التعصب للحزب والجماعة والفئة مع الزمن في العقل الباطن لأتباعهم، وحل محل التجرد للحق التأويل لكل فعل يصدر عنهم، أو رأي يتبنونه، وأصبحوا يحتالون لتبريره باسم الدين كيفما كان.
إننا لزاما اليوم نعيد إلقاء الضوء على قاعدة: (لا إنكار في مسائل الخلاف) ليستبين طلاب الحق مكامن الآفاق الرفيعة فيها وثمارها، وليحـد من إهمال مدلولـها، ولتُربط بالتصور الإسلامي الكلي العام، والفقهي الخاص، فتكتمل بذلك جوانب الحوارات العلمية التي تؤدي إلى تبصر الحق تجردا للحق والاعتذار لمن خالف فيه حفظا لحقه في الفهم والاستدلال.
إن هذا البحث يكشف عن مقدار الاستيعاب الفقهي للخلاف، سواء من حيث الاعتراف الواقعي بوجوده، أو من حيث كيفية التعامل معه، أو الاعتراف بمشروعيته، أو تحاشي شرور الاختلاف، فقاعدة (لا إنكار في مسائل الخلاف) تعكس صورة الانفتاح الفقهي المنضبط على آراء الآخرين واختلافاتهم، وتضبطها بالنصوص الشرعية والمقاصد العامة للتشريع، وتستوعبها ضمن الأخوة الإسلامية، ووحدة جماعة المسلمين، وبيان الموقف الصحيح من الخلاف في المسائل الشرعية، وصورة العمل بهذه القاعدة عند الاختلاف، ومعرفة مدى النسبية والإطلاق فيها، وضرورة الحفاظ على حقوق الأخوة في الدين والنصح الخالص فيها واجتناب الفرقة والتنازع والاعتذار للمخالف والتعايش معه وحفظ حقوقه.
إن البحـث لاسـتيفاء شرح قاعدة: (لا إنكار في مسائل الخلاف)، وبيان ما تؤصله من مبادئ وحقوق، لاستبانة العمل بها وتحقيق ثمار العمل بها وما تفرع عنها أو استلزمته من القيم، وذلك صيانة للدين والأخوة فيه واستيعابا لاختلاف الآراء، وضبطا لتعدد الأفكار والرؤى، والوقوف وسطا بين الغالي في الحق والجافي عنه.