إبراهيم حاج عبدي
إبراهيم حاج عبدي

"قارب إلى ليسبوس"

تحيل مفردة اللجوء، عادة، إلى الانكسار والهموم والتشرد، وهي إحالة صحيحة في الغالب، لكن في المقابل ثمة "قصص ملهمة" تولد من رحم معاناة اللجوء، عبر الإصرار والتشبث بالحلم، مهما بدا بعيدا وعصيا على التحقيق.

ومن بين هذه القصص الملهمة، التي تجسد روح المثابرة والإصرار ومن ثم النجاح، حكاية الشقيقتين يسرى وسارة مارديني، اللتين اضطرتا للفرار من سوريا ووصلتا إلى ألمانيا، عبر طرق التهريب المضنية، ثم حققتا جزءا من حلم بدا مستحيل التحقق، وهو ما جسده فيلم "السباحتان" للمخرجة البريطانية من أصول مصرية سالي الحسيني.

الفيلم، الذي يمتد لنحو 130 دقيقة، يرصد حكاية الفتاتين يسرى (تجسد دورها نتالي عيسى) وسارة (تجسد دورها منال عيسى)، وتجسيد شقيقتين ممثلتين لدور شقيقتين سباحتين منحت الفيلم خصوصة ومصداقية، فهذه هي المرة الأولى، في حدود علمنا، تقوم فيها شقيقتان في فيلم روائي طويل بدور شقيقتين على أرض الواقع.

تعيش الفتاتان مع أسرتهما في أحد أحياء دمشق، وتتابعان تدريبات السباحة على يد والدهما السباح أيضا (يجسد دوره علي سليمان).. يوميات عادية تقضيها الأسرة في هدأة العاصمة السورية، إلى أن تقع الأحداث في 2011 وتتفاقم الأوضاع الأمنية سوءا.. عندئذ وككل السوريين، ثمة حل واحد وهو الهجرة من ميادين الموت الوشيك إلى "الجنة الأوروبية"...

هنا تبدأ الدراما المؤثرة في الفيلم، إذ تصل يسرى وسارة برفقة ابن عمهما نزار (أحمد مالك) إلى تركيا، ومن شواطئ أزمير عليهم الوصول إلى جزيرة ليسبوس اليونانية، وهي جزيرة كانت منسية على الخرائط، لكنها اكتسبت شهرة واسعة بعد وصول آلاف اللاجئين السوريين إلى شواطئها، أحياء أو غرقى، ومن الأفضل هنا ألا نسترسل في الحديث، فقد وقعت أهوال ومآس كثيرة، ومنها مثلا صورة الطفل الغريق إيلان الذي اجتاح ضمائر العالم.

المهرب التركي يجلب قاربا مطاطيا مهترئا، وككل مهربي البشر الجشعين، يتفق مع أعداد من الركاب تفوق طاقة القارب المطاطي الصغير كي يحصل على المزيد من الأموال، وحين يمخر القارب عباب البحر، يكاد يغرق كما هو متوقع، من الحمولة الزائدة، ورغم رمي الركاب لمتعلقاتهم في البحر لتخفيف الحمولة، لكن التهديد لا يزال قائما..

هنا تقفز يسرى وسارة إلى البحر ليدفعا القارب، الذي تعطلت مولدته، ويكملان ما تبقى من المسافة إلى جزيرة ليسبوس سباحة، في موقف مؤثر ومؤلم، إذ نجحتا في إنقاذ نفسيهما واللاجئين الذين كانوا على متن القارب.

بداية جديدة كتبت للشقيقتين، بل إن إحداهما وهي يسرى تصر على تحقيق حلمها بالمشاركة في أولمبياد ريودو جانيرو 2016 بالبرازيل، وبالفعل تتمكن بعد تدريب مضن، والتغلب على الظروف الصعبة، من المشاركة في الأولمبياد ضمن ما سمي، آنذاك، فريق اللاجئين الأولمبي، لتصبح لاحقا سفيرة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وصنفتها مجلة "بيبول" الأمريكية في قائمة "25 امرأة غيّرن العالم".

تنهمك المخرجة بسرد حكاية يسرى، وتغفل تماما، في فيلمها الذي شاركت فيه بكتابة السناريو، عن السياسة، رغم أن فيلما من هذا القبيل من الصعب أن ينجو من فخ السياسة، لكن سالي الحسيني تتبع لغة سينمائية سلسة تبتعد فيه عن كل ما يعيق تلك السلاسة، ذلك أن ما يشغلها هو الهم الإنساني، وجمالية الإرادة والتحدي، بمعزل عمن كان السبب في هذه الدياسبورا السورية، الأكثر قتامة، في العصر الحديث.

ومع غياب الملف السوري عن أجندة دوائر القرار على ضفتي الأطلسي، وانهماك العالم بملفات وأولويات أخرى من قبيل حرب أوكرانيا وأزمة الطاقة، فإن أفلاما من هذا النوع تعيد التذكير بالوضع السوري المنسي، وتسلط الضوء على معاناة اللاجئين السوريين الذين تفرقوا في المنافي البعيدة والقريبة.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com