أرْخنة الشر

أرْخنة الشر

عالم كفكاوي هو الذي عاشه الكاتب الفرنسي أوليفييه مانوني، وهو ينقل سرديات الأطباء والعلماء النازيين من الألمانية إلى الفرنسية، قبل أن ينتقل إلى سرديات عُتاة القادة النازيين من أمثال غوبلز وزير الدعاية في حكومة الرايخ الثالث، وهاينريش هيملر رئيس جهاز الغستابو النازي الذي لُقب بقاتل القرن بسبب تصفيته لآلاف من معارضي الحكم النازي..

إلا أن اللقاء الأبرز في حياة مانوني كمترجم كان مع مصدر الشر ذاته، الذي من دونه لم يكن يمكن للنازية أن تكون أو أن تستبيح ملايين من الأرواح البريئة أو أن تُحول الآلاف من البشر العاديين إلى جلادين.

لقد قبل مانوني تحدي ترجمة كتاب "كفاحي" لأدولف هتلر، وهو الكتاب الذي نُشرت أول ترجمة له سنة 1934 في فرنسا قبل أن يُمنع توزيعه في ألمانيا، وكذلك في فرنسا تَحوطا مما يمكن أن يحدثه من تأثير على أفكار الناشئة وغير الناشئة.

اعتاد مانوني أن يكتب ليلاً وهو يدخل دهاليز الموت مع قادة النازية وأطبائها وعلمائها، إلا أن ترجمته لـ"كفاحي" استمرت عشر سنوات بأيامها ولياليها، وهي تجربة مثيرة جعلته، كما يقول، يقيم داخل عقل هتلر طيلة هذه السنوات ليسبر أدق تفاصيل أفكاره ونواياه وليُعيد كما تقول صحيفة "لوموند"، هتلر وفضح نص خام "مُوحل، مليء بالأخطاء والتكرار، غالبا ما يكون غير مقروء ومليء بتراكيب عشوائية وصياغات وسواسية".

الكتاب نُشر في طبعة نقدية من 864 صفحة بعنوان "أرخنة الشر" أو "التأريخ للشر" سنة 2021، وهو لم يحمل العنوان الأصلي للكتاب، لأن دار النشر ارتأت أن تستعين بمجموعة من المؤرخين لتتبع كل ما جاء في "كفاحي" من أقوال ومعلومات وغربلتها وإظهار المزيف والمفارق للحقيقة منها، وإدانة الأكاذيب والافتراءات والأوهام العنصرية لصاحبها..

كما نشر الكتاب، حسب خطة تسويقية مدروسة، إذ تم عرضه للبيع بمائة يورو حتى لا يقع إلا بين أيدي المتخصصين المعنيين بتاريخ الحقبة النازية، وقد تم تزويدهم في هذا الكتاب بجهاز نقدي يحد من شمولية "كفاحي" ويمكّنهم من قراءة يَقِظة لضمنياته.

الطريف في علاقة المترجم أوليفييه مانوني بـ"كفاحي" أنه أصدر أخيراً كتاباً بعنوان "ترجمة هتلر"، تحدث فيه عن تجربة ترجمته، وهي تجربة اتسمت بالعنف، لأنه كان مجبراً، كما يقول، أن يعيش داخل عقل هتلر لكي يعرفه جيداً، وبما يكفي لتخمين نواياه وفهم آليات تفكيره، كما كان مجبراً على التعايش معه، بل إن أسرته أيضاً كانت مجبرة على التعايش معه لدرجة أن زوجته اضطرت لإخفاء كل الكتب التي تحمل أغلفتها اسم دكتاتور الإبادة الجماعية.

إزاء هذا العنف الذي مارسه " كفاحي" على مترجمه، كان على هذا الأخير أن يقاتل حتى لا يغزوه هتلر ويغزو حياته.

يستعرض مانوني ساعات العمل الطويلة، خلال هذه السنوات العشر، مما يسميه محنة ترجمة هتلر، ليس فقط بسبب "الفكر المنحرف" لمؤلف "كفاحي"، بل لأنه كان من الضروري لترجمة الكتاب بشكل جيد، تغيير جميع قواعد الترجمة التي تريد تقديم نص مقروء وسلس لجعل فكرة المؤلف مفهومة، بسبب ما أشرنا له آنفاً من أخطاء الكتاب والتكرار والتراكيب والصياغات الخاطئة..

يتذكر أوليفييه مانوني هذه المعاناة في جعل أسلوب هتلر واضحاً وأفكاره مفهومة قائلاً: "كان عملي الذي يتعارض مع جميع القواعد الكلاسيكية للترجمة، مرهقاً، ليس بسبب محتواه الذي أعرفه، ولكن بسبب هذا الانطباع أنني أتقدم بنعل من الرصاص في مستنقع موحل".

تمثل عناوين فصول كتاب "ترجمة هتلر" التي تنقل لنا مسار ترجمة "كفاحي"، كما تقول بيرانجار فيانو، مؤلفة كتاب "لغة ترامب"، صدى للأحداث التي أفضى إليها "المتن الهتلري".. هذه العناوين هي: "الغزو"، "الطوفان البني"، "العاصفة"، "المستنقع"، وأخيراً "أصداء كئيبة"، إلا أننا نفتقد لعنوان مثل "التحرر"، كما تقول فيانو، وكان كتاب الرعب، وبالتالي، تاريخ الرعب لم يُغلق تماماً.

هذا ما يؤكده الفصل الأخير من "ترجمة هتلر"، عندما يشير إلى أنه يشعر بالقلق إزاء الأثر الذي تركته النازية، خاصة من حيث توظيف اللغة، وممارسة عنفها على العقول واستدراجها إلى الدوائر الجهنمية للشر..

ويذكر المؤلف في هذا الصدد لغة خطاب إريك زمور تجاه الأجانب المقيمين في فرنسا، وخاصة العرب منهم، وخطاب ترامب وقادة اليمين المتطرف في إيطاليا وغيرها.. ولعلنا نضيف خطاب داعش التكفيري التحريضي، وهو خطاب لا يختلف عن الخطابات النازية واليمينية المتطرفة في كره الآخر المختلف وإقصائه، بل استباحة دمه.

انتحر هتلر، وانتحر العديد من القادة المقربين له، ولكن كل يوم يولد أشباه لهم. 

الأكثر قراءة

No stories found.
logo
إرم نيوز
www.eremnews.com