الإله جوبيتير.. وفتية الحجارة
الإله جوبيتير.. وفتية الحجارةالإله جوبيتير.. وفتية الحجارة

الإله جوبيتير.. وفتية الحجارة

ما زالت الانتخابات التشريعية الفرنسية تثير جدلا صاخبا في الأوساط السياسية والإعلامية، في بلد يواجه فيه رئيسُه تحديا على مستوى إدارة شؤون البلاد وتنفيذ الإصلاحات الكبرى التي أعلنها أثناء حملته الانتخابية الرئاسية..

وهذا الجدل يفجره عدم حصول الرئيس ماكرون على الأغلبية المطلقة في الجمعية الوطنية الفرنسية، ما يمثل نكسة سياسية كبرى لائتلاف "معًا" الذي يرأسه ساكن الإليزيه، كما يمثل هزيمة شخصية له أمام تقدم جبهة اليسار والجبهة الشعبية التي تقودها مارين لوبان.

أحد العناصر المثيرة لهذا الجدل هو التساؤل عن مدى قدرة ماكرون على إقناع الجمهوريين بالعديد من مواقفه السياسية وسياساته الاقتصادية من أجل جلب تأييدهم له لتمرير مجموعة من القوانين والإصلاحات التي ينوي عرضها على الجمعية الوطنية، وقدرته أيضا على تحقيق توافق أدنى مع جبهة اليسار وعلى رأسها حركة "فرنسا الأبية" التي بشر رئيسها منذ الانتخابات الرئاسية الماضية بأنه سيكون رئيس الحكومة القادم..

هذا التوافق سيضمن حدا أدنى من الاستقرار السياسي لفرنسا طيلة السنوات الخمس الموالية، إلا أن تعليق الرئيس ماكرون على نتائج هذه الانتخابات، وهو تعليق تأخر أكثر من يومين، واعترافه بأن المشهد السياسي الفرنسي تشقه انقسامات كبيرة تنذر بالخطر على بلاده، وهو ما يتطلب، في رأيه، رصّ الصفوف من أجل وحدة وطنية تساعد على تنفيذ الإصلاحات التي ينتظرها الناخب الفرنسي الذي يعاني من تراجع مستوى عيشه بسبب ما ألقته جائحة كوفيد من ظلال على الاقتصاد الفرنسي، كما يعاني، كأغلب سكان العالم، من تبعات الحرب الروسية الأوكرانية، قد تمت مجابهته مرة أخرى بموجة من الانتقادات من جميع الأحزاب المعارضة..

هذا الأمر يجعل التوافق صعب المنال، بالرغم من أن رأسيْ السلطة الفرنسية لهما تاريخ في التعايش، وقد نجحا نسبيا في تحقيقه في فترة التعايش بين فرانسوا ميتران الاشتراكي وجاك شيراك الجمهوري، وبين هذا الأخير وليونال جوسبان الاشتراكي، كما نجحت فيه المستشارة الألمانية ميركل طيلة 22 عاما من حكمها.

أما المسألة القارة في هذا الجدل، فتظل نسب الامتناع عن التصويت ودلالاتها ورسائلها، فقد بلغت هذه النسبة خلال الدورة الثانية للانتخابات التشريعية 54 بالمائة وهي نسبة غير مسبوقة في الانتخابات الرئاسية والتشريعية الماضية التي بلغت رقمها القياسي، 28 بالمائة، خلال الانتخابات الرئاسية لعام 2002، التي عرفت زلزال تقدم اليمين المتطرف أمام شيراك.

وتذهب عادة التحاليل والمقاربات السياسية والسوسيولوجية إلى تفسير العزوف عن التصويت بتراجع الاهتمام بالشأن السياسي خاصة لدى الشباب وبفقدان الثقة في الطبقة السياسية التي فشلت في تلبية تطلعات المواطنين ومعارضتها الشديدة للسياسة النيوليبرالية للرئيس ماكرون، وليس أدل على ذلك من حركة السترات الصفراء التي استمرت لعدة أشهر على شكل احتجاجات صاخبة وعنيفة أحيانا، وعلى شكل عصيان مدني أحيانا أخرى، وهي لم تتوقف إلا بسبب المجابهة الأمنية العنيفة التي تمت بها مقاومتها..

ورغم أن جان لوك ميلنشون، مرشح اليسار الراديكالي للرئاسة في فرنسا، نجح في تعبئة شريحة كبرى من الشباب الغاضب واستمالته، وأن مارين لوبان نجحت، إلى حد ما في نزع شيطنتها، فإن ما يُسمى بالعرض السياسي عموما ظل غير مغر بالنسبة للمواطنين الفرنسيين الذين يشعرون أن السياسيين لا يهتمون بمشاكلهم الحقيقية، وأن طرح قضية مثل قضية السيادة الفرنسية، على سبيل المثال، مقابل الانتماء للاتحاد الأوروبي والامتثال لقراراته ليست بالوضوح ولا بالتأثير الكافيين على المعيشة اليومية للمواطن الفرنسي، إذا لم يُترجم إلى أرقام وبيانات محسوسة تحمي قدرته الشرائية.

وثمة تحاليل أخرى تذهب لوجود فرق بين الوعي بالحق، وهنا الحق في الانتخاب وبين ممارسة حق المواطنة بالذهاب لصندوق الاقتراع وتحمل مسؤولية الاختيار، وأن المرور من مستوى الوعي، وخاصة بالنسبة للشباب، إلى مستوى الممارسة، يتطلب تدرجًا يقضيه الشاب في الاندماج الاجتماعي والبحث عن حد أدنى من الاستقرار من خلال الحصول على فرصة عمل وسكن وتكوين أسرة.. إلخ.

وفي كل هذه الحالات يعتبر العزوف عن أداء الواجب الانتخابي موقفا سلبيا وتقاعسا ونوعا من أنواع الخمول، إزاء موعد وطني كبير يُفترض أن تشكل رهاناته عناصر جلب أكبر للمواطنين، إلا أن الباحثة الفرنسية لورانس دي نرفو، رئيسة مخبر "المصير المشترك" بمنظمة جون جوراس الفرنسية تقدم قراءة مختلفة عن ظاهرة العزوف في الانتخابات، وتقول إنها توصلت من خلال بحث ميداني إلى أن الممتنعين عن التصويت ينقسمون إلى ليبراليين أحرار امتنعوا عن التصويت خلال المواعيد الانتخابية الفرنسية الماضية، للمرة الأولى، للتعبير عن رفض قوي وبليغ الرسالة مفادها بأنهم يرفضون كليا اللعبة السياسية القائمة حاليا في فرنسا، وطريقة إدارتها وسياقاتها، وأنها لعبة مشوشة بسبب تأثيرات خارجية لا دخل للفرنسيين فيها..

أما القسم الثاني من الممتنعين فهم أناس مُحبطون يشعرون بالعجز عن التأثير في مجرى الحياة السياسية والاقتصادية لبلدهم، خاصة أنه سبق لهم أن أدلوا بأصواتهم واختاروا مرشحين ظنوا أنهم سيكونون ممثلين حقيقيين لهم، ولكن هؤلاء المرشحين خذلوهم وتلاعبوا بأصواتهم وأورثوهم خيبات مرة.

وفي الحالتين، تخلُص لورانس دي نرفو إلى أن الامتناع عن التصويت كان ضربا من المُمانعة ومن ممارسة المواطنة النشيطة على السياسيين أن يفككوا رسالتها ويأخذوها بعين الاعتبار في تخطيط مستقبل سياساتهم.

ولكن هل سينجح جوبيتير، وهي الصفة التي يطلقها بعض وسائل الإعلام الفرنسية على إيمانويل ماكرون، في إشارة إلى "إله السماء والبروق والرعود الروماني"، وفي إشارة إلى تعالي ماكرون وثقته المفرطة بنفسه، إلى الاستماع لفتية السترات الصفراء وأمثالهم، وقد سبق لأنداد لهم، ليس فقط أن اقتلعوا، لحظة ثورة مايو 68، حجارة ساحة السوربون وضواحيها، ولكن في هز عرش شارل ديغول المكين!.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com