نساء "القيادة التغييرية"
نساء "القيادة التغييرية"نساء "القيادة التغييرية"

نساء "القيادة التغييرية"

ما من مرة اُجري استطلاعُ رأي المواطنين التونسيين حول الشخصيات السياسية التي يرشحونها للفوز في الانتخابات التشريعية والرئاسية القادمة، إلا وتصدرت عبير موسي، رئيسة الحزب الدستوري التونسي، قائمة السياسيين الذين ينوي التونسيون منحهم الثقة في الانتخابات التشريعية، فيما تحتل المرتبة الثانية في نوايا التصويت للانتخابات الرئاسية..

وهذا ما أفضى إليه آخر استطلاع رأي أجرته مؤسسة "أمرود كونسلتينغ" التونسية.

وفي الواقع نحن لا نميل تماماً إلى التبرير الذي يقدمه خصوم عبير موسي من أن تراجع ترتيبها في نوايا التصويت في الانتخابات الرئاسية يعود أساساً إلى كونها تولت في العهد السابق مسؤولية مساعدة الأمين العام لحزب التجمع الدستوري، الذي تبنى برامج الرئيس بن علي ودافع عنها طيلة 23 عاماً، وتكون بالتالي غير جديرة بالثقة بسبب انتسابها لمنظومة حكم متهمة بالتسلط وبالفساد..

ويعود رفضنا لهذا التبرير كون العديد من مسؤولي الدولة بعد الثورة كانوا من رجال المنظومة التي أرادت الثورة تغييرها، وعلى رأسهم الرئيس السابق المرحوم الباجي قائد السبسي، الذي منحه التونسيون حوالي مليون ونصف المليون صوت في الانتخابات الرئاسية لعام 2014.. وكان تولى مناصب عديدة في عهد الرئيس بن علي، وفؤاد المبزع الرئيس الأسبق وأول رئيس لجمهورية ما بعد الثورة، وكان قد تولى أيضاً رئاسة مجلس النواب لفترة تجاوزت العقدين خلال ما يسمى بالعهد السابق.

إن أسباب هذا الصد في نوايا التصويت لعبير موسي كرئيسة جمهورية ممكنة، من قِبل الخصوم، وحتى من قِبل العديد من الأنصار، يعود، في رأينا، إلى مواقف تمييزية متجذرة في ثقافة ذكورية بامتياز، وذلك تكريساً لتراتبية تفاضلية قائمة على أساس الجنس تمنح للرجال أحقية تملك السلطة، وبالذات السلطة السياسية، واحتكار ممارستها والتفرد بدوائر القرار العليا التي تُقصى منها النساء اللواتي توكل إليهن، في الغالب، أدواراً وخططاً وظيفية أقل أهمية.

وبالرغم مما وصلت إليه تونس، كما العديد من البلدان العربية، من نجاح في وضع قواعد تشريعية متصلة بحقوق النساء، وتمكين العديد منهن من النفاذ إلى دوائر القرار بتولي مناصب وزارية غير تقليدية، مثل وزارات الاقتصاد والتخطيط والعدل والطاقة وحتى رئاسة الوزراء، كما هو الشأن في تونس ومصر والإمارات العربية المتحدة وغيرها.. فإن تلك الثقافة التمييزية ما زالت تلقي بظلالها على تمثلات المجتمع للمرأة القيادية التي تظل مشبعة بالأفكار النمطية للزعيم الذكر، وهذا ما كشفته الدراسة الإقليمية التي أعدها مركز تدريب المرأة العربية حول "القيادة التغييرية لدى النساء.. مسارات لنساء مؤثرات في الزمن"، والتي غطت كلاً من تونس والمغرب والأردن.

والطريف أن هذه الدراسة التي تم إعدادها بناءً على مقابلات مع نساء من أوساط اجتماعية متفاوتة، ومن أعمار مختلفة، قد أبرزت أن مفهوم القيادة مرتبط بصورة زعماء رجال، مثل الزعيمين الحبيب بورقيبة وجمال عبد الناصر وغيرهما، وحتى عندما يتم استحضار نماذج نسائية فإنه تنسب لها عادة صفات ذكورية، مثل الصرامة والشجاعة والصلابة وغيرها من الصفات التي تخضع للتقسيم ما بين هو ذكوري وما هو أنثوي..

كما أن النساء اللواتي تم ذكرهن لم يكن في الغالب متمردات على القواعد الذكورية التي تحكم العلاقة بين المرأة والرجل، وما تستبطنه من تمييز وإرادة إقصاء وتكريس لدونية المرأة.

لقد علمنا الدرس "البورقيبي" ليس ضرورة الشجاعة في مواجهة القضايا السياسية والاجتماعية فقط، بل تعلمنا أيضاً من التجربة البورقيبية أن إصدار القوانين والتشريعات كفيل بخلق ديناميكية اجتماعية تفضي إلى التغيير المطلوب، وهذا ما حدث في جزء كبير بالنسبة للتغيير الاجتماعي والثقافي الذي عاشته تونس إثر صدور مجلة الأحوال الشخصية، إلا أن صدور القوانين لا يكفي دائما إذا لم توجد الأذهان المستعدة لتقبلها والعمل على ضوئها..

لذلك، رافق فرض تعميم التعليم ومجانيته في تونس، صدور تلك المجلة، كما رافقتها حملات توعية وتنشيط مؤسسات نسوية، مثل الاتحاد التونسي للمرأة؛ لنشر وترويج خطاب المساواة بين المرأة والرجل، ولروح وأحكام مجلة الأحوال الشخصية بصفة عامة.

ولأن للتغيير الثقافي زمنه، الذي قد يطول حتى يفعل فعله في العقول والذهنيات، فإن العديد من المختصين في العلوم الإنسانية استنبطوا مفهوم "القيادة التغييرية" الذي تبنته منظمات دولية وإقليمية، مثل مركز تدريب المرأة العربية، الذي يُعنى خاصة بما يُسمى بالنساء اللامرئيات اللواتي نجحن في تغيير واقعهن بفضل إصرارهن ومثابرتهن وشجاعتهن في تحدي ظروف حياتهن الصعبة، فنجحن لا في تغيير هذه الظروف فقط، بل في تغيير أنفسهن بما اكتسبنه من ثقة في قدراتهن وإيمانهن أنهن كفيلات بإحداث التغيير المطلوب في واقعهن وفي محيطهن، وبالتالي في مجتمعاتهن.

مركز تدريب المرأة العربية لم يكتفِ بتسليط الضوء على مسارات هؤلاء النسوة، بل قام بتنفيذ برامج لمزيد إعداد "قياديات تغييريات" على مستوى الحكم المحلي في بعض المدن التونسية، والعديدات منهن، بعد هذه التجربة، يطمحن أن يكن "قياديات تغييريات" على المستوى الوطني.

فهل يمكن أن تتكرر هذه التجربة على المستوى العربي؟ وهل يمكن أن تُسهم في تغيير البُعد الذكوري للمشهد السياسي العربي الحالي، فيكون أقل قسوة وأكثر إنصافاً؟

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com