اعتذار للبحر
اعتذار للبحراعتذار للبحر

اعتذار للبحر

جواز سفر أخضر اللون، التقطه مواطن من على شاطئ مدينة نابل التونسية يحمل شعار الجمهورية العربية السورية، وصورة شاب تجاوز الثلاثين بسنوات قليلة.

ربما كان هذا الشاب هاربا من التجنيد القسري، أو طالبا متخرجا من كلية الطب حالما بالسير على خُطى مجدي يعقوب، فيَهب بلده انتصارا غير الانتصارات العسكرية..

ربما كان حبيبا أعْيته الخيبات المتتالية في توفير تكاليف عش الزوجية، فيمّم شطر "الجنة الموعودة" ليلقي بعصا الغربة ويرتاح..

ربما كان ذلك الصبي الذي طلب منه والده أن يجلب لي قهوة فائرة قبل أن يبيعني، منذ سنوات، عقدًا اقسم أنه من أجمل قطع حُلي سوق الصاغة بالحميدية..

ربما كان ذلك الفنان التشكيلي الذي شاهدته يوما على شاشة أحد التلفزيونات الغربية يقول إنه استعاض عن الألوان بدماء الضحايا ليرسم بأصابعه سردية مقاومة الطاعون الذي ضرب بلاده..

ربما كان عامل تفريغ في ميناء اللاذقية أو بحارا من أحفاد "زكريا المرسليني" الذي التقطه حنا مينه بصنارة خياله ليناجي البحر قائلًا: "يا بحر، يا صاحبي، أنت تعرف محنتي، ساعدني ولا تكن بخيلًا معي.. الصديق وقت الضيق"، إلا أن البحر خذل ابن الثلاثين ونيفًا وسحبه إلى أعماقه السحيقة..

وربما رمى بفردة حذائه هنا غير بعيد من شاطئ نابل، وربما أنشب الحوت أسنانه في جسده النحيل ثم ألقت الأمواج العاتية ما تبقى من ذلك الجسد هنالك على شاطئ مدينة جرجيس الجنوبية..

هناك، حيث يحنو البحّار شمس الدين مرزوق ابن جرجيس على الجثث العائمة والمرمية ليقبرها بـ"جبانة الغربة" التي أقامها على أرض اشتراها ليدفن بها مئات من جثث المهاجرين التونسيين ومن غير التونسيين من مختلف الجنسيات التي رمى بها البحر على شاطئ مدينته.

شمس الدين مرزوق الذي ألهم المخرج التونسي الأسعد الوسلاتي قصة مسلسله التلفزيوني "الحرقة"، الذي لقي حفاوة لافتة من قبل التونسيين أثناء عرضه خلال شهر رمضان كان أيضًا قادحًا لفكرة رواية "شط الأرواح" للكاتبة آمنة الرميلي التي سردت من خلالها قصصًا مأساوية لمهاجرين سريين من دول عربية وأفريقية، وقد تضاعفت أعدادهم بين التونسيين منذ "ثورة "الربيع العربي" سنة 2011، وخاصة من بين فئة الشباب الذين رفعوا خلال هذا الحدث المرجعي في حياتهم شعار "شغل.. حرية.. كرامة وطنية".

تقول الكاتبة آمنة الرميلي لسان صاحب "جبانة الغربة": "دفنت مئات الجثث، وعرفت مئات الحكايا والأعاجيب، وشققت التراب بلا هوادة أواري سوأة أناس لا أعرفهم لا أعرف منهم إلا جثثهم تناديني أو أناديها سيان لأحفظ كرامتها من التحلل تحت الشمس، الإنسان إنسان ما لم يتحلل جسده تحت الشمس، ما لم تسل سوائله وتنفقس عيناه فوق الأرض وليس تحتها".

لا يمكن أن نفهم الصدى الجيد الذي قوبل به هذان العملان فقط بالحرفية الكبيرة للمخرج الأسعد الوسلاتي أو باقتدار آمنة الرميلي على سبك روايتها، بل لأن العملين مسّا أيضًا وجدان التونسيين وحرّكا شجونًا عميقًا في نفوسهم، ذلك أن الهجرة غير النظامية تحولت إلى ظاهرة لافتة في تونس بل لهاجس للدولة وهاجس للأسر المنكوبة وهاجس للأفراد الذين تتعلق بها آمالهم ومغامراتهم، التي كثيرا ما تنتهي بإحباطها، في بداياتها، من قبل خفر السواحل أو باختفاء أجساد العديد منهم في ظلمات بحر ظنوا أنه سينقلهم إلى حياة جديدة تنسيهم إحباطات الماضي وخسائره.

كان السفر إلى الدول الأوروبية، وبالذات إلى فرنسا، حتى بداية الألفية الثانية، أمرًا غير عسير المنال لغالبية التونسيين، سواء للسياحة أو للعمل، إلا أنه مع دخول دول شرق أوروبا للاتحاد الأوروبي وإثر أحداث سبتمبر 2001 أغلقت الحدود بين ضفتي المتوسط وبدأت موجات الهجرة السرية بالتتالي، ثم بلغت أوجها، سواء لتونس أو للعديد من العرب أو الأفارقة مع اشتعال مناطق الصراع وبؤر التوتر التي انتشرت هنا وهنالك.

ومع تصاعد وتيرة الهجرة السرية، تغيرت أيضًا طبيعة هذه الهجرة وطبيعة المهاجرين، فشملت، بحسب دراسة أجراها الدكتور عبد الستار السحباني، أستاذ علم الاجتماع في الجامعة التونسية، لفائدة المنتدى الاقتصادي والاجتماعي بتونس، أسرًا بأكملها، نساء وأطفالًا، شبابًا من الحاصلين على شهادات جامعية أعيتهم البطالة وعدم الالتحاق بسوق الشغل..

كما شملت هذه الهجرة شابات جامعيات وغير جامعيات، ومواطنين بلا هويات ولا مواقع في المجتمع أصبحت الحياة بالنسبة لهم أقسى من احتمال موت هو على مرمى تقلبات البحر ومزاج أمواجه، على مرمى عراك بين المغامرين، على مرمى غدر صاحب شبكة التهريب وتهالك مركبه، على مرمى الحيتان الكبيرة التي تتاجر بالبشر وتشم هشاشتهم وتلتقطها كما يشم حيوان بري طريدته، فيذهب لاقتناصها.

العديدون من أكثر من 24 ألف مهاجر، من الذين تم إحباط محاولاتهم الهجرة بشكل غير نظامي من طرف السلطات التونسية خلال الأشهر الماضية، يعترفون أن مغامرتهم هذه لم تكن الأولى وربما لن تكون الأخيرة، وأنهم يفضلون المغامرة على "الموت الرحيم"، كما جاء على لسان الباحث التونسي، وهو ما جعله يتساءل: "كيف يمكن لهؤلاء الشباب بل لكل هذه الأسر أن تركب المغامرة وهي تعرف أن الموت العاصف قد يتلقفها كما تنتظرها مراكز الإيقاف الإيطالية وتنكيل رجال أمنها وجبروتهم في انتظار ترحيل هؤلاء المغامرين بأسلوب مهين، إلى وطن لم يعد رحيما؟".

يتقصى الدكتور السحباني الأسباب المعروفة لتنامي الهجرة، خلال السنوات الأخيرة بين شباب المنطقة العربية والأفريقية، من انسداد آفاق التشغيل وصعوبة تلبية الحاجيات الأساسية وانعدام الأمن ليذهب إلى عامل لافت، من عوامل الهجرة التي ربما تخص الشباب التونسي، وهو توتر العلاقة بين الآباء والأبناء، بل وتصدّعها، مما يجعل الأبناء محرومين من نصائح الأولياء ودعمهم ومساندتهم، حتى المعنوية، فيضطرون إلى التواصل مع أبناء الجيران والرفاق والأصدقاء، الذين يكونون في العديد من الحالات حلقة وصل بينهم وبين شبكات الاتجار بالمخدرات ومافيات التهريب والاتجار بالبشر.

إنها بلا شك علامة من علامات انهيار سلطة الآباء، الذين لم يعد لهم الكثير مما يوفرونه لأبنائهم غير النصائح ودموع الوداع، انهيار لا يضاهيه غير انهيار سلطة الدولة التي فقدت، خلال العشرية الماضية، القيمة الاعتبارية التي كانت تتمتع بها سابقًا، بسبب فشلها في إدارة شؤون الحياة العامة لمواطنيها وتلبية تطلعاتهم إلى عيش كريم وفي الرفق بأحلام شبابها الطرية.

فلنعتذر إذن من البحر، من أمواجه العاصفة، ومن أعماقه السحيقة، ومن حيتانه التي لا حيلة لها في نهش الأجساد الهزيلة؛ فحيتان شبكات المخدرات وشبكات التهريب والاتجار بالبشر، وحيتان لوبيات السياسة، وحيتان البر كلها أشرس من موت رحيم آخر وهبَه شاب سوري لنفسه متوجًا رحلة ضياع وعذاب موجعة.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com