أبو الزيك (2 من 3)
أبو الزيك (2 من 3)أبو الزيك (2 من 3)

أبو الزيك (2 من 3)

حين شعر باقترابي من طاولته، رفع زكي فطين رأسه فرأى نظرات الغضب في وجهي وهي ترقب ما يفعله بأوراق السيناريو المسكينة، فسارع بإطفاء نار غضبي بضحكة عالية أطلقها وهو ينهض مادّا يده بالسلام، وقائلا بسخرية: "طبعا مش أحسن طريقة تقابل بيها سيناريست لأول مرة"، ثم طلب أن أعطيه فرصة لكي يشرح سر تمزيقه للأوراق، وأنا قررت أن أبادله المودة والهزار، طالبا منه أن يبعد قاطعة الأوراق "أحسن السلاح يِطوَل".

بعد التحية والسلام وبعض الهَذَر اللطيف، وقبل أن ينزل الشاي والنسكافيه، قال زكي إنه يعرف أن ما أغضبني أكثر ليس تمزيقه لجزء من أوراق السيناريو، بل الأوراق البديلة التي قام بلصقها والتي تتضمن كتابة بخطه، وطمأنني أنه لم يقم بإعادة كتابة حوار شخصيته، وإنه ليس بهذه الدرجة من الغباء التي تجعله يفعل ذلك قبيل حضوري للقائه، زائد أن محمد علي شدّد على أهمية حفظ الحوار بدقة، لأن جدول التصوير ضيق بسبب ضعف الميزانية، ولا يتحمل أي تأخير أو تعطيل.

طيب ما الحكاية؟ كل ما هنالك أنه تعوّد منذ أيام الدراسة التي لم يكن شاطراً فيها بالمناسبة، أن يستخدم الكتابة كوسيلة للحفظ، فبدلاً من أن يقوم بتسميع ما يرغب في حفظه لآخرين، كان يلجأ إلى كتابته بدل المرة بضع مرات، حتى يحفظه عن ظهر قلب، وحين سألته لماذا لم يكتفِ بإعادة كتابة الحوار في ورق منفصل بدلاً من بهدلة السيناريو، قال إنه يشعر بالألفة أكثر مع خطه، وأنه حين يلقي نظرة على عبارات الحوار مكتوبة بخطه يرتاح نفسياً ويومض شيء ما في عقله فيتذكرها ويقولها بسهولة، وبدأ يريني بيانا عمليا على ذلك ليؤكد لي أمانته في التعامل مع الحوار.

حرصت على أن أقول له إنني لست من المؤلفين المهاويس الذين يعاملون حوارهم بوصفه نصا مقدسا لا يقبل التغيير، وإنني أدرك أهمية الارتجال الذكي والمنضبط برؤية المخرج، لكن نوع المسلسل وطبيعة بنائه الدرامي تستوجب الحذر من حذف وتغيير العبارات التي يقولها الأبطال في بعض المشاهد، لأنها ستُحسب عليهم بعد ذلك في مشاهد أخرى، حين تزداد حدة التحقيقات في لغز جريمة القتل التي يدور حولها المسلسل، ولم أكن أعرف وأنا أتحدث عن طبيعة حوار المسلسل أن ذلك سيجعله يحضر سيرة والده العظيم فطين عبد الوهاب إلى حوارنا.

حدثني زكي عن إعجابه بالكوميديا السوداء التي صيغت بها مشاهد كثيرة جعلته يضحك من قلبه بعكس ما كان يتوقع، مضيفا بحرج أنه سمع كثيرا عن أفلامي الكوميدية، لكنه ينوي مشاهدتها، فمن يدري ربما لم أكن فقط السبب في عودته إلى التمثيل؟ بل وفي عودته أيضا إلى عشقه القديم: الإخراج، وبالتحديد إخراج الكوميديا نوعه الفني المفضل الذي ابتعد عنه من باب العناد مع النفس، حتى لا يقال إنه يسير على خطى أبيه الذي أتعب من بعده مخرجي الكوميديا، ولكيلا أثير حفيظته، لم أحدثه عن إعجابي الشديد بأبيه، بل حدثته عن مشاهد علاء ولي الدين وأشرف عبد الباقي في فيلمه غير المكتمل (رومانتيكا) والتي تميتني من الضحك كلما شاهدتها وعن روح السخرية التي تغلّف الفيلم كله وهو ما جعله فيلما ممتعا بالنسبة لي برغم كل ما رافقه من ملابسات وصعوبات، فهز رأسه بأسى، ثم قال "يااه.. انت شفت الفيلم؟ طيب كويس"، وقام بتغيير الموضوع.

أخذنا الحوار إلى الشخصية التي يلعبها في المسلسل، والتي قال إنه كان محظوظا بكونها من نصيبه، لأنها سهّلت عليه قرار العودة إلى التمثيل، ليس فقط لأنها تظهر في الجزء الأول من الأحداث غامضة وضبابية ثم مرتبكة ومثيرة للشك، وهو ما سيساعده بعد الغياب الطويل عن الكاميرا، خصوصا أن تلك الأجزاء هي التي سيبدأ التصوير بها، ثم طلب مني أن نركز في جلساتنا على الجزء الأخير الذي يتكشف فيه ماضي الشخصية للمشاهدين ليتضح أنه كان يكذب على زوجته، مثلما كانت هي تكذب عليه، وحين أخذ يتحدث عن تصوره للطريقة التي سيؤدي بها هذا الجزء، شعرت بارتياح عميق، وانتهزت فرصة ذهابه إلى الحمام لأتصل بمحمد علي وأقول له إنه سنكون محظوظين جدا لو أدى زكي الشخصية بهذا الفهم وبهذه الحماسة.

كنا محظوظين والحمد لله، ونجح المسلسل في منح فرص بطولة حقيقية لكل من شارك فيه من الممثلين والممثلات، ومع أن بعض النقاد أشاروا إلى تلعثم زكي فطين في أداء بعض عبارات الحوار، إلا أنهم اعتبروا ذلك جزءا من ملامح شخصية العائد إلى الوطن بعد طول غياب، وكان على زكي أن يأخذ باله من هذا العيب في أعماله التالية التي زادت وتيرتها بشكل لم يكن يتخيله أحد، لدرجة أنه أصبح يشارك في بطولة أربعة وخمسة مسلسلات في الموسم ذاته.

كان "أبو الزيك" ـ اسمه المعتمد بعد جلستين تحولنا فيهما إلى أصدقاء ـ كلما التقينا صدفة في شوارع وسط البلد، يفتح ذراعيه ويضيء وجهه بابتسامة عريضة وهو يناديني بـ "وشّ السعد"، فأقول له مداعبا إنه بالتأكيد مع ضغط "النحت" المستمر لم يعد يجد وقتا لممارسة طقس قص ولصق عبارات الحوار، فيرد ضاحكا بأن "الفلوس معروفة بأنها تحسن كل شيء في الإنسان، حتى القدرة على الحفظ السريع"..

وكنت سعيدا بعدها بسنوات حين انتشر له مقطع من مسلسل مع المخرج أحمد جلال يقول فيه مونولوجا انتقاديا عن أحوال البلد دون أن تظهر عليه آثار اللعثمة أو الارتباك، وحين أرسلت إليه رسالة لأعبر له عن سعادتي بذلك، تأخر رده عليّ، ولم أدرك سر التأخير إلا حين قرأت خبر إصابته بالمرض اللعين الذي ظل يقاومه بشجاعة تليق به.

تكررت لقاءاتنا في وسط البلد خلال الإعداد لتصوير (أهل كايرو) وبعد عرضه، كان أغلبها في ملتقى العشاق رديء المشاريب الذي اعترف لي أن السبب الوحيد الذي دفعه لجعله "محله المختار"، هو أنه أقل مكان في محيط وسط البلد يمكن أن يلتقي فيه معارف وأصدقاء مزعجين يمكن أن يوجعوا دماغه أو يعكّروا مزاجه الذي كان يقول مازحا إن معدلات تعكّره تزداد مع كل يوم يكبر فيه، ذلك المزاج المتقلب الحاد، الذي كان لا يجد حرجا في الاعتراف بأنه جنى عليه ودفعه لاتخاذ قرارات خاطئة كثيرة لا يفخر بها ولا يندم عليها.

بعد نجاح المسلسل دعينا كثيرا لحضور لقاءات في أندية ومحافل ومراكز ثقافية وقنوات تلفزيونية، وكان زكي فطين أبرز المعتذرين في كل هذه اللقاءات، لأنه لم يكن يطيق فكرة الجلوس على منصة لتبحلق فيه العيون، فضلاً عن تحسبه من أن تبتعد الأسئلة الموجهة إليه عن الشخصية التي لعبها لتتحدث عن فطين وليلى وسعاد، الثلاثة الكبار الذين ارتبطت أسماؤهم لدينا بالبهجة والنشوة، وارتبطت لديه بألم الفقد وقسوة الظروف، وربما لذلك كان سعيدا حين حكى لي عن تعرف بعض المشاهدين عليه خلال تجواله الدائم في شوارع وسط البلد بوصفه "جوز صافي سليم" أو "بتاع أهل كايرو"، وكأن حديثهم العفوي أشعره ولو للحظات بانزياح العبء الذي لم يختر حمله قط، والذي عرفت بعض تفاصيله حين جمعتنا صدفة جديدة.

...

نكمل الأسبوع المقبل، بإذن الله.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com