براءة.. مُسترابة
براءة.. مُسترابةبراءة.. مُسترابة

براءة.. مُسترابة

لم يحدث، في تاريخ تونس، أن أصدر حزب جماهيري ومنظمة وطنية عتيدة ووزارة، بيانات إدانة ورفض لمسلسل تلفزيوني أذيعت حلقاتُه خلال شهر رمضان على إحدى القنوات التلفزيونية التونسية الخاصة..

وقد أثارت حلقات المسلسل ردود فعل صاخبة وساخطة في غالب الأحيان على مواقع التواصل الاجتماعي وعلى منابر وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة.

يتعلق الأمر هنا بمسلسل "براءة" الذي كتبه وأخرجه سامي الفهري، صاحب قناة "الحوار التونسي"، التي كان خطها التحريري، إلى شهور ماضية، مناهضا لحركة النهضة الإسلامية..

وسبق للفهري أن أخرج مسلسلات أخرى صدمت الرأي العام في تونس بجرأتها، شأن مسلسل "مكتوب" الذي عُرض طيلة أربعة مواسم رمضانية، بسبب تقديمه لشريحة واسعة من الشباب مُغيبة الوعي، هجينة اللغة، غارقة في استهلاك المخدرات والاتجار بها، في حين يعج المجتمع التونسي بالكفاءات الشابة التي اقتنصت الدول الأوروبية الآلاف منها لتنمية بحوثها العلمية وأسواق عملها..

إلا أن الصدمة التي أحدثها "براءة" فاقت كل التوقعات، إذ اعتبر منتقدوه أنه استهدف أحد أركان مشروع تحديث المجتمع التونسي متمثلا في مجلة الأحوال الشخصية، التي أقدم على إصدارها، بكل شجاعة، الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، أربعة أشهر بعد الاستقلال..

ومن المعلوم أن المجلة المذكورة مكّنت المرأة التونسية، آنذاك، من تشكيلة حقوق ومكتسبات لم تكن تحلم بها حتى بعض النساء الأوروبيات..

لقد حمّل منتقدو هذا العمل التلفزيوني المخرج سامي الفهري جريرة تقديم الزواج العُرفي كما لو أنه ممارسة عادية في تونس اليوم، والحال أنه زواج على غير الصيغ القانونية، وبالتالي جريمة يعاقب عليها بعقوبة سالبة للحرية طبقا لمجلة الأحوال الشخصية وللقانون المتعلق بتنظيم الحالة المدنية.

في هذا السياق، أكد بيان الحزب الحر الدستوري أن منع تعدد الزوجات والزواج العرفي من الممارسات التي تم الحسم فيها منذ سنة 1956، ولا مجال للتراجع عن اعتبارها جريمة، كما لا مجال لطرحها مجددا للنقاش، واستنكر البيان كذلك تعليقا على بيان وزارة المرأة الذي أكد التزام الدولة بحماية الحقوق المكتسبة للمرأة التونسية، ما أسماه بـ"النفاق السياسي"..

وهذا لأن رئيسة الحكومة تعلم جيدا أن أوكار تفريخ الأفكار المعادية لمضمون مجلة الأحوال الشخصية لا زالت تعيث في البلاد عبر الجمعيات التي أسسها الإخوان والتنظيمات التكفيرية وتقوم بنشر رؤيتها الهدامة لحقوق المرأة.

كذلك، لم تكتف السيدة راضية الجريبي، رئيسة الاتحاد الوطني للمرأة، بإدانة ما جاء في هذا المسلسل من أفكار مناهضة لروح مجلة الأحوال الشخصية بل أبلغت الرئيس قيس سعيد في لقاء به مخاوفها من أن تشهد حقوق المرأة التونسية انتكاسة بسبب مثل هذه الأفكار التي بدأت تعرف طريقها إلى المجتمع التونسي.

وبقطع النظر عن حق المبدع، في مجالات الأدب والفن، في حرية التعبير عن آرائه ومواقفه، وفي التطرق إلى التابوهات الاجتماعية والسياسية وحتى التجاسر عليها سعيا لتقليص دوائر اغتراب الإنسان وفتح آفاق لتحرره..

وبقطع النظر أيضا عن علاقة الأثر الأدبي والفني بمرجعياته الواقعية، فإن المتابع لمسلسل "براءة" لا يمكن إلا أن يخلص إلى أن الواقع الذي صوره سامي الفهري هو واقع غريب عن حياة التونسيين، وأن قصص شخصياته هي قصص صادمة للمشاهد التونسي الذي طوى صفحة تعدد الزوجات والزواج العرفي، منذ أكثر من ستين سنة.

يتناول المسلسل قصة "وناس" رجل الأعمال الثري الذي أراد أن يستمتع بجسد معينته المنزلية فتزوجها عرفيا، ولما تفطنت زوجته إلى هذه الخيانة وإلى تعلّق زوجها بمَن هي أدنى منها اجتماعيا قبلت هذا الواقع، بدعوى عدم استقلالها الاقتصادي، وحرصت حتى يبتعد عن هذه المعينة، على تزويجه بثالثة التي نكتشف أنها أيضا موضوع رغبة لزوجها ورغبة لابنيها الاثنين..

وهنا ندخل منطقة الاتجار بالبشر عندما تعرض الزوجة على والد الفتاة مبلغا من المال ليرضى عن تزويج ابنته "حنين" "بوناس" كما يعرض أحد الابنين، بدوره، مبلغا ماليا لتكون "حنين" من نصيبه..

ويذهب المسلسل في مجموعة من القصص المفككة بسبب تداخل قصص أخرى عن الإرهاب وعن رتق غشاء البكارة وعن حالات اغتصاب المرضى النفسيين، مما جعل العمل حتى على المستوى الفني غير ذي وحدة في الرؤية الفنية وفي التيمة التي تناولها، وذلك دون أدنى موقف رافض أو بما يوحي برفض المخرج لمثل هذه الممارسات.

إن مسلسل "براءة"، كما تم عرضه مثّل تطبيعا مع ظاهرة دخيلة على المجتمع التونسي، وعرضا لصور سلبية جدا عن المرأة التونسية، إذ إن كل شخصيات المسلسل النسائية شخصيات خانعة، ذليلة، تُبرر القهر الذكوري وتخضع له، إلى جانب أن كل هؤلاء النسوة هن موضوع رغبة جنسية لا غير، وهي صورة مختلفة عن واقع المرأة التونسية التي تفتخر بمكاسبها التي تحققت منذ أواسط الخمسينيات وتواصلت إلى سنة 2017 بإصدار قانون يُجرم كل أشكال العنف المادي والرمزي والاقتصادي المسلط عليها، وهي التي أسهمت أيضا، وبشكل لافت، في كل معارك التحرر التي خاضتها تونس.

ولا شك أن هذه الصورة السلبية التي روّجها المسلسل هي التي دفعت أحد أساتذة العلوم السياسية إلى القول إن "براءة" يقطر سمًا زعافًا ويهدف لغايات محددة أبرزها ضرب العائلة التونسية.

والواقع أن هذا العمل التلفزيوني لا يهدف فقط إلى ضرب الأسرة التونسية بل يذهب إلى ضرب أحد أبرز أركان المشروع التحديثي والتنموي الذي أرساه الزعيم الحبيب بورقيبة.

إن سنّ مجلة الأحوال الشخصية فضلاً عن تعميم التعليم وتعصيره لم يكن الهدف منه فقط تحرير المرأة على المستوى الفردي بل أيضا إطلاق الطاقات النسائية لإنجاز المشروع التنموي الذي خططت له دولة الاستقلال، والذي كان يتطلب تعبئة كل الجهود الجماعية لإنجاح ذلك المشروع..

وهكذا تنزل صدور مجلة الأحوال الشخصية في سياق عمليات تغيير اجتماعي وثقافي واقتصادي كانت تروم تحقيقه الدولة الوطنية في بداية بنائها في تونس، وهو ما أعطى للمجلة ذلك الزخم والأهمية المحورية في المشروع التحديثي البورقيبي.

لقد كان لصدور المجلة وما رافقه من تغيير اجتماعي وثقافي الأثر الكبير في تطوير عقليات التونسيين، نساء ورجالا، من حيث خلخلة البنية الثقافية التقليدية وقبول التونسيين بل واستيعابهم لمبدأ المساواة بين المرأة والرجل ورفض ما يسلبها حريتها وكرامتها.

ولعل من أبرز مميزات هذا الاتجاه التنويري والتحديثي الذي سلكته دولة الاستقلال، تواصله مع الحركة الإصلاحية في تونس، ومن أهم قادتها الزعيم السياسي عبد العزيز الثعالبي الذي أسس الحزب الدستوري التونسي، والذي كتب من منفاه في بغداد وفي القدس منذ ثلاثينيات القرن الماضي ضمن مؤلفه "روح التحرر في الإسلام" مدافعا عن المساواة بين المرأة والرجل في الإرث وعن الأهلية الاجتماعية للمرأة التونسية في أن "تنتج بقدر ما تستهلك.. وتوفر للأمة مزيدا من الثروة العامة"..

ولا يمكن أن ننسى أيضا كذلك المفكر الطاهر الحداد الذي دعا في كتابه "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" الصادر سنة 1930 إلى تحرير المرأة من قيود التقليد المكبلة لقدراتها، مؤكدا أن مساهمة المرأة في الحياة العامة وبالذات في الدورة الاقتصادية هي من الأسباب الرئيسة لرقي المجتمعات الأوروبية.

إن هذه الخلفية الاجتماعية والثقافية التي يقارب بها التونسيون قضية المرأة ودورها الفاعل في مجتمعها هي التي تمكننا من فهم كل هدا الصد الذي قوبل به مسلسل "براءة"، حتى وإن تسللت إلى تونس بعض حالات الزواج العرفي المحدودة، خاصة في أوساط الطلبة بفعل تأثير الحركة الإسلاموية المنغلقة، فإنها لم ترتق إلى درجة الظاهرة المُعممة التي تجعل منها موضوعا لثلاثين حلقة من مسلسل أساء إساءة بليغة إلى المرأة التونسية.

بقي السؤال "البريء" عن توقيت إنتاج هذا المسلسل وعرضه وعلاقته بمؤلف قصته ومخرجه سامي الفهري، ذلك أن الألسن ذرفت الأسئلة المتلاحقة طوال أيام عرض هذا المسلسل عن الخلفيات الثاوية وراء اختيار ثيمة الزواج العرفي في هذا الوقت بالذات، ولاسيما أن هناك فئات محافظة بل رجعية تحاول الرجوع بالمجتمع التونسي إلى الوراء بكل ما أوتيت من جهد، ولم تفتر لها همّة في هذا الخصوص.

وحري بالإشارة أخيرا إلى أن المخرج سامي الفهري دخل السجن مرتين بعد الثورة لاتهامه بتحقيق مكاسب غير مشروعة لشركته "برومود للإنتاج الفني" التي كان شريكا فيها مع أحد أصهار الرئيس بن علي..

ويشاع أن الإسلاميين أطلقوا سراحه في إطار صفقة مع النهضة، التي تروج لمشروع مجتمعي مناهض للمشروع المجتمعي التحديثي التونسي الذي لم يصادف هوى عند التونسيين بل إنه باء بالخيبة المرة.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com