دندنات على مقام العيد
دندنات على مقام العيددندنات على مقام العيد

دندنات على مقام العيد

لا أعرف لماذا أهرب إلى حصون طفولتي وأحضانها الوارفة كلما لاح عيدٌ في سرابات الطريق!

لا أدري كيف تظل عامرة صاخبة في تلافيف روحي تلك اللمسات من عيد يعشش في البال كعصفور جريح!

ألأننا بتنا نعيش عالماً لم يعد يتقبّل الأعياد بلغتها الأولى ولهفتها الأولى، ولهذا ترانا نهيم في ربوع وحقول الذكريات نلملم أشلاء صور مشتهاة من حياة فرّت كالماء من بين أصابعنا، وجعلتنا نشيخ على عجل كعشب مشموس على قارعة المرعى.

كنّا ننام باكراً كدجاجات الجيران؛ علَّ ذاك العيد الكسول المتمهل ألا يتلكأ هذه المرة أيضاً في المجيء.. نريده أن يركب نجمةً سريعة بذيل طويل، ويترك سلحفاءه العجوز البليدة.

وكنا نتساءل عن مشكلة تأخر الأعياد وتلعثمها على مدارج الطريق.

وقبل النوم كان علينا أن نجرّب ملابسنا الجديدة في الدقيقة ألف مرة أو يزيد، ونمسد عليها بحنو قبل أن نعلقها برفق فوق رؤوسنا الممتلئة بالأشواق.

مع بحة الفجر الأولى كنت تفتح عينيك على وقع مآذن تدندن بتكبيراتها الرخيمة المبهجة، فتطير فرحاً بعد أن ترمي عنك دفء اللحاف، وتأخذ نفساً بشهيقين متتاليين؛ كي تسحب غيوماً تجيش في صحن البيت..

لا شيء يشعرك بالعيد إلا القهوة وهيلها الفوّاح، فتهرع إلى جدك المترنم بدق مهباشه بعد أن يلقمه حفنة من البن المحمّص، فتراقصك النغمات والإيقاعات وتنسى أن تغسل بصمات النوم عن جفنيك.

في الظهيرة تفرح إن طلّت البنت النعّومة بشعرها المربوط كذيل حصان جموح، فتعرض عليها التأرجح بأرجوحتك المنصوبة في جذع مشمشة البيت. تقبل البنوتة النرفوزة، وتطير سحابة عطر مازلت تتلمسه كلما طعنتك السنوات.. نشيخ نحن، ويظل ذيل الحصان الجموح يلوح ويلوح كقلب مجنون.

كان الناس أجمل، كانوا وردا بلا شوك، وصاروا شوكا بلا ورد، كما يقول صاحبي المجروح، كانوا يتصافحون بصدق، والقلوب تودّ لو تقفز من أقفاص الصدور تشارك في حميمية العناق، كانوا يتناولون إفطارهم صبيحة العيد معاً كعائلة، زيتاً وكعكا ساخناً وشايا خفيفا..

واليوم باتت رسالة معلبة مكرورة تدور من هاتف نقال إلى آخر، فتغني عن كل ذلك الوصال، كل واحد منا صنع من نفسه محوراً ومنصة وبؤرة ومجرة.. هو يكتب معايدة بسيطة، وعلى الآخرين أن يردوا عليه، وينتهي عند هذا العيد.. هو الصوت والآخرون الصدى.

المؤلم أن يتدافع الناس إلى زيارة المقابر بعد صلاة العيد، وكم من متخاصمين تحتك أكتافهم على بوابة المقبرة؛ فيشيحون بوجوههم بعيداً، ولا يقرؤون السلام إلا على القبور الدامسة.

في العيد الماضي قال لي بحزن: لماذا علي أكون دائماً مبادراً في كل الأعياد.. سأجرب ألا أتصل أو أزور أحداً.. النتيجة كانت مخيبة للآمال والتوقع؛ فقلة فقط من بعث لي برسالة، ولم يتفقدني أحد.. لماذا لا يتفقدون غيابي أو يتفقدون عدم تفقدي لهم على الأقل؟!، فقلت له: لا عليك. المبادر عليه ألا ينتظر أحداً.

وكل عام وأنتم بخير

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com