"جيران" مانو خليل.. قهر بلا حدود في دولة "البعث"
"جيران" مانو خليل.. قهر بلا حدود في دولة "البعث""جيران" مانو خليل.. قهر بلا حدود في دولة "البعث"

"جيران" مانو خليل.. قهر بلا حدود في دولة "البعث"

أتيحت لي فرصة مشاهدة فيلم "جيران"، جديد المخرج السينمائي الكردي السوري مانو خليل، بوصفي عضواً في مسابقة "جوائز النقاد للأفلام العربية"، وتواصلت مع المخرج بعد مشاهدته، فكشف لي أن سيناريو الفيلم ظل مؤجلاً لربع قرن، إذ أنجز خلالها المخرج العديد من الأفلام، إلى أن نجح في تأمين التمويل لفيلمه الجديد الذي كلف أكثر من مليونين ونصف المليون دولار.

يقتفي مانو خليل في فيلمه "جيران" آثار جرح غائر بقي ملتصقاً بروحه، منذ أربعين عاماً، وحتى اللحظة، فآثر أن يحول هذه التراجيدية الطويلة من اللوعة والشجن إلى شريط سينمائي بطله الطفل شيرو (سرحد خليل) الذي عانى قهراً بلا حدود، يفوق سنوات عمره الست، وانتهى به المقام لاجئاً مكسوراً في مخيم بإقليم كردستان العراق.

يروي خليل في فيلمه تفاصيل "مرحلة عصيبة" في تاريخ سوريا عاشها وكان شاهداً عليها، في قرية قرب القامشلي، أقصى شمال شرق سوريا.

ففي ثمانينات القرن الماضي، كان المد الإخواني في ذروته، وكان حزب البعث "الحاكم" يمارس سطوته على السوريين ويحصي أنفاسهم، فيما كانت أجهزة الأمن "أمينة"، في سحق كل ما يعكر صفو "الرسالة الخالدة" في "الوحدة والحرية والاشتراكية"، شعار البعث الذي ظل مجرد حبر على ورق قبل زمن الفيلم وبعده.

هذه الخيبات والمآسي وأجواء الترهيب والخوف يستعيدها خليل عبر عيون الطفل شيرو الذي اختبر باكراً مرارة الحياة، دون أن يقوى على إيجاد تفسير لهذه الخسارات الباهظة، والمتتالية، حيث فَقَد أمه برصاص جندي تركي أرعن كان يلهو بسلاحه في نقطة حدودية بين سوريا وتركيا، ثم فقد عمه آرام (اسماعيل زاغروس) الذي تعرض للتعذيب على يد أجهزة الأمن، ليقرر الرحيل بعيداً، بحثاً عن هواء الحرية في جبال كردستان، تاركاً حبيبته الجارة اليهودية حنا، وابن أخيه شيرو لأسئلة محيرة لا جواب لها.

وما فاقم من خيبات الطفل هو يومه المدرسي الأول، حين انفصل عن ذاك الدفء الذي تختزنه لغة الأهل الكردية الملتصقة بالوجدان والمخيلة، ليضطر إلى التحدث باللغة العربية التي لا يفقه من مفرداتها شيئاً، فهو مفتون بمفردات وصور وجمل أخرى تتزاحم، باللسان الكردي، لتتسرب برفق إلى دواخل الطفل الذي يلهو بمرح مع أقرانه في دروب القرية الوادعة، المحاصرة بأعداء وهميين.

اكتشف شيرو، فجأة، أن تلك اللغة الكردية الحنون، التي ينطق بها أفراد محيطه الصغير الودود ممنوعة في المدرسة الابتدائية العربية، فيعاقب على ذنب لم يرتكبه، من قبل الاستاذ (جلال الطويل) القادم من دمشق، وهو مندفع لتطبيق إيديولوجيا البعث، التي لا تعترف أصلاً بالوجود الكردي، ومتحمس لفكرة إزالة إسرائيل من الخارطة، وبأن اليهود شر مطلق، عبر مواقف مسرحية هزلية مضحكة، فهذا المعلم "البعثي" يعتبر أن غرس هذه الأفكار "العنصرية" هو وظيفته الأساسية أكثر من أداء مهامه في تعليم الأطفال القراءة والكتابة.

تتزاحم الأفكار والتفاصيل عبر مشاهد الفيلم الذي يستحضر الموزاييك المجتمعي السوري من عرب وأكراد وآشوريين وأرمن ومسلمين ومسيحيين ويهود، كانوا جيراناً في زمن مضي قبل أن يأتي حزب البعث ويطيح بهذا التنوع العرقي والطائفي.

وكان نصيب الكرد من محاولات الإقصاء والنبذ هو الأكبر، فلم يحرموا من لغتهم وثقافتهم وتقاليدهم، فحسب، بل حرموا كذلك من أملاكهم وأراضيهم التي ذهبت إلى من يسمون "عرب الغمر" الذين جلبتهم سلطات البعث من أرياف الرقة التي غمرتها مياه سد الفرات، ليستقروا في المناطق الكردية بهدف تغيير تركيبتها الديموغرافية، وفق الهدف غير المعلن للسلطات.

واليهود بدورهم لم يكونوا بمنأى عن هذا الإقصاء، إذ يخصص الفيلم حيزاً هاماً للحديث عن محنتهم عبر عائلة ناحوم (جهاد عبدو) التي تتعايش مع جيرانها الأكراد في وئام ومودة تستمر إلى ما بعد أربعين عاماً من أحداث الفيلم، حين تعود حنا من سويسرا، التي كانت قد هاجرت مع آلاف اليهود في ظل ضغوط السلطات، لتسأل عن الطفل شيرو، الذي أصبح الآن شاباً، وهي تحمل لوحة ورقية كان قد رسمها الطفل في ذلك الزمن البعيد، القاسي والحنون، احتفظت بها حنا، كمؤشر على حب ظل مضيئا في أعماق قلبها رغم عتمة السنوات.

تعثر حنا، التي أصبحت الآن طاعنة في السن، على شيرو، الطفل الشاهد على حبها لآرام، وتعانقه طويلاً في مشهد بالغ التأثير يسدل الستار على الفيلم الذي يمتد لنحو ساعتين.

كل مشهد في فيلم مانو خليل يسرد حكاية تتكامل أجزاؤها لصنع هذا الشريط السينمائي المفعم بالشاعرية والأسى، والمشغول، كذلك، برؤية سينمائية لا تخلو من الطرافة والتهكم والسخرية، من مشهد رجال القرية وهم يراقبون عبث الحياة في محيط تعج قواميسه بحديث الحقول والبيادر والأمطار وقصص العشق الخائبة، والغيبيات والخرافات، إلى الراديو العتيق الذي يبث أغاني كردية في زمن كان الغناء الكردي فيه ممنوعاً، إلى مشهد الرجل الغاضب دائماً "علي" وتعنيفه لزوجته.

ومن مشهد النساء وهن يغسلن ويغتسلن على ضفاف النهر، إلى مشهد اللقاءات "الحزينة" بين الأهل على جانبي الحدود بعد أن مزقت اتفاقيات سايكس بيكو الخرائط، إلى مشهد "النخلة" التي جلبها الأستاذ كرمز للعروبة لكنها سرعان ما تتيبس أغصانها نتيجة برودة الطقس في تلك الأنحاء المهدورة للطيش والضياع، إلى مشهد وصول الكهرباء إلى القرية كأحد إنجازات "ثورة البعث".

وقبل كل ذلك مشهد البالونات الملونة بألوان العلم الكردي والتي يطلقها شيرو وعمه آرام في السماء باتجاه حرس الحدود الذين يجن جنونهم فيطلقون عليها الرصاص.

فيلم جيران الروائي الطويل هو تطوير لفيلم قصير كان قد أنجزه مانو خليل في الثمانينات عنوانه "هناك حيث ينام الله"، إذ واظب خليل، الذي أنجز أكثر من 15 فيلماً بين الروائي الطويل والقصير والوثائقي، على تطوير السيناريو وأجّل إطلاق المشروع مراراً إلى أن حصل على تمويل من مؤسسات وتلفزيونات أوروبية فضلاً عن إسهام شركته "فرام فيلم" لينجز الفيلم الذي جرى تصويره في منطقة قريبة من دهوك بكردستان العراق، بعد أن بنى ديكوراً ضخماً يعكس طبيعة بيئة شمال سوريا، واستعان بآلاف قطع الإكسسوار التي كانت تُستخدم في زمن الفيلم.

كاميرا مانو خليل تنقل وداعة تلك البيئة بعيون متمرسة، تراقب كل تفصيل عبر إضاءة خفيفة كئيبة حين يتعلق الأمر بلقطات مؤلمة، فيما يظهر الضوء ساطعاً عندما يسرد الفيلم مفارقات مرحة وهزلية، وأضفى أداء الممثلين العفوية، وأغلبهم ليسوا من النجوم، مزيداً من المتعة على هذا الشريط الذي يروي حكاية طفولة محرومة، وعشق خائب، وموت مجاني، وصداقة ناقصة، وجيران مزقت أواصر علاقاتهم ألاعيب سلطة لم تحقق العدل سوى في "توزيع فائض الظلم على رعاياه، فحصل كل واحد على نصيبه من الإذلال وامتهان الكرامة.

عن المخرج

درس مانو في كلية الحقوق والتاريخ بجامعة دمشق بين عامي 1981 و1986، حيث تعرف على فن أخاذ اسمه السينما، فقرر أن يدرس هذا الفن، وبالفعل سافر إلى تشيكوسلوفاكيا (قبل أن تتحول إلى التشيك والسلوفاك). درس السينما في أكاديمية الفنون السينمائية والموسيقية هناك بين عامي 1987 و1994 بعدما اجتاز اختباراً شارك فيه 150 طالباً من مختلف أنحاء العالم نجح منهم خمسة فقط.

وبعد دراسة السينما عاد إلى سوريا، ولديه حلم أن يعمل في السينما، لكن تجربة فيلم واحد أثبت له أن العمل السينمائي في سوريا دونه عراقيل وعقبات يصعب عليّه تجاوزها، فقرر العودة إلى التشيك حيث عمل في التلفزيون وصارت له مكانة جيدة.

في عام 1996 قرر الذهاب إلى سويسرا ليخوض بداية جديدة صعبة لينجح عام 1999في إنجاز فيلم "انتصار الحديد" الذي نال الجائزة الأولى في أحد المهرجانات السويسرية القومية المهمة، وبثه التلفزيون السويسري.

هذا الفيلم فتح الطريق أمامه، إذ أنجز فيلماً روائياً طويلاً بعنوان "أحلام ملونة" 2003، وفي 2006 أنجز فيلمه الوثائقي "الأنفال، بسم الله والبعث وصدام"، ثم جاء فيلم "دافيد تولهلدان" 2007، وفي عام 2010 أنجز مانو فيلمه "جنان عدن"، وبعد ذلك بعام حقق فيلم "طعم العسل"، وفي 2016 صدر فيلمه "السنونو"، ثم فيلمه قبل الأخير "حافظ ومارا".

هذه الفيلموغرافيا الغنية جلبت لمانو العديد من التكريمات والجوائز السينمائية في مهرجانات مرموقة في مختلف دول العالم، فضلاً عن الاحتفاء النقدي الذي يحظى به خليل عند كل فيلم جديد له.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com