المحروق (2 من 4)
المحروق (2 من 4)المحروق (2 من 4)

المحروق (2 من 4)

لن ألومك لو سألتني: وما الذي رماك على "الحموم" يومها، هل حَبَكَت يعني؟ سأذكرك فقط بأن الماء الساخن الجالي للأدران وإن جاء عبر وابور جاز أو وابور زلط أرحم ألف مرة من الماء البارد الجالب للقشعريرة، وأن الحمام المتسع النظيف خير من الحمام المزنوق القذر، خصوصاً إذا كان مخلوع الباب، وعندها لن تلومني لأنني انتهزت فرصة وجودي في بيت العائلة ودخلت الحمام لأستحمّ، ولو أني أعرف خاتمتي ما كنت دخلت.

قبل أن يجري الماء المغلي على صدري، قال خالي الأحنّ والأقرب إلى قلبي إنه سيكفيني عناء تحضير الوابور لتسخين الماء، فقد كنت أعاني كلما اضطررت إلى تشغيل الوابور، ربما لأنني تعلمت طريقة استخدامه بطريقة الزغد والتقطيم المحببة إلى جدتي وسائر الجدّات في بلادنا.

انتهزت فرصة حنانه ومددت تعسيلة النوم ربع ساعة كنت في أمسّ الحاجة إليها، لأكون في قمة يقظتي حين ألعب دور الدمنة المعتاد معه على القهوة، وحين أيقظني في الموعد بعد أن قال إن كل شيء جاهز لاستحمام جنابي، ذهبت إلى الحمام وأنا نصف نائم، وكان ينبغي ألا أضع رجلي في الحمام إلا بعد أن أفيق تماماً من آثار التعسيلة التي أنستني أولى القواعد الأربعين للاستحمام بالماء المغلي.

مددتُ الكوز إلى صفيحة الماء الساخن التي كانت تغلي فوق الباجور، وبدلاً من أن أصبّ الماء المغلي كالعادة في طشت الماء الفاتر لكي أعادل درجة حرارته ثم أبدأ في الاستحمام، دَلَقتُ بغفلتي كوز الماء المغلي على صدري، لتظلم الدنيا أمامي للحظات فقدت فيها القدرة على النطق، ثم تنبعث مني صرخة مدوية قال شهود العيان إنها بدت لهم شبيهة بصرخات الحيوانات البرية في برنامج (عالم الحيوان).

ولأن صهد نار الوابور كان قريباً جداً مني، تضاعف خوفي من أن أتزحلق فأقع عليه وأتسبب لنفسي فيما هو أسوأ، فقررت سرعة الخروج من الحمام وأنا أصرخ بعزم ما فيّ صرخات أسمعت من في آخر الشارع: "آآآآآآه.. الحقوني، اتحرقت"، وحين انتبهت إلى أن مَن سيلحقني من أهل البيت سيراني عارياً زلط ملط، سارعت لستر نفسي ببشكير لففته حول وِسطي، وخرجت من الحمام باحثاً عن منقذ يطفئ لهيبي.

بعد أن تجاوزنا أيام الصدمة والأسى، وبدأنا في استعادة الذكريات، قال خالي إنني وسط عوائي وبكائي لم أكن أقول "الحقوني" فقط، بل كنت أقول "الحقيني يا امّه"، مع أنني كنت أعلم أن أمي على بُعد آلاف الكيلومترات مني، وحين كابرت في إنكار روايته، لامني لأنني أخجل من حقيقة أن الإنسان في لحظات انهياره يستدعي ربه ثم أمه، وإلا لما قال محمود عبد العزيز قولته الشهيرة "آه يا حوستي السودة يا انا يا امّه"، وإنني لم يكن مطلوباً مني أن أخرج من الحمام وأنا أصرخ مثل أرخميدس "وجدتها وجدتها".

لا أريد أن أستفيض في هذا الجدل العقيم حول وقائع غير متواترة حول ما كنت أقوله، فالمؤكد أنني ظللت لفترة أتدحرج على أرض الصالة ثم أتنطط في سمائها من شدة الألم، ولذلك لم آخذ فرصة للنظر إلى الأرض المحروقة في صدري، إلا بعد أن رأيت نظرات الفزع والاستبشاع على وجوه كل مَن رآني ولم يصلّ على النبي، بل حوقل وتصعّب ومصمص شفتيه وضرب كفيه حسرة وأسفاً، وحين ألقيت النظر إلى مواضع نظرهم، رأيت أن هناك طبقة ما من الجلد تبدو وقد فارقت موضعها وذهبت متدلية نحو أسفل الصدر، فأقنعت نفسي بأنني أهلوس تحت تأثير الصدمة، وعدت للصراخ في الواقفين المتفرجين لكي يسعفوني بحل سريع.

مع دخول بعض الجيران الذين جابتهم الصرخات على ملا وجوههم، تنوعت مصادر الحل السريع، وكان يمكن أن تصل إلى عدد لا نهائي في بلد يولد فيه كل مواطن طبيباً ومهندساً ومديراً فنياً، وبالطبع لم يكن من بين تلك الحلول ضرورة الذهاب الفوري إلى أقرب مستشفى، لأن الحرق كما أجمع الواقفون المبحلقون في تضاريسه لا يستحق كل هذه الدوشة التي أحدثتها، مرجحين أن يكون سبب ما أنا فيه من ألم عائداً إلى الصدمة أكثر من كونه مرتبطاً بحالة الجلد، وهو إجماع لا أنكر أنه تسبب في توقفي عن الدحرجة والتنطيط، ليس بسبب غياب الألم، بل بفعل وطأة الخجل الذي دعاني للتجلد أمام الجيران، لأريهم "أني لريب الدهر لا أتضعضعُ".

لم يطل ثباتي ووقوفي على بعضي، وإن كنت لم أعد إلى التنطيط، بل استبدلته بالجري الملتاع الصارخ من أقصى الشقة إلى أقصاها، بعد أن تم تطبيق أول حل سريع اقترحته خالتي الكبرى التي اعتبرها الجميع مصدر ثقة في الطب والدواء، لأنها تعمل في هيئة التأمين الصحي، صحيح أنها تعمل موظفة إدارية، لكن ألسنا نؤمن بأن من جاور السعيد يسعد، فلماذا لا يفتي في الطب من جاور الأطباء طيلة عمره؟ ولذلك استجاب الكل لنصيحتها واستبشروا بالشفا القادم من يديها بعد أن وضعت على مكان الحرق معجون أسنان، لم أكن أتوقع أن به مادة كاوية ستجعل نهاري أسود من الليل الذي "أرخى سدوله عليّ بأنواع الهموم ليبتلي".

بالتأكيد، حين يتفاعل الألم السابق الناتج عن الحرق مع الألم اللاحق القادم من كيمياء المعجون، لن تتوقف هنيهة أمام أي اقتراح جديد لتختبر مصداقيته وقدرته على تخفيف آلامك، لذلك لم يكن غريباً أن أتمدد على الكنبة ليطقش جارنا بيضتين على صدري ويقوم بتلييطهما دون أن يرأف بحالي، زاعماً أن ما في البيض من سحر سيمتص كل الحرارة التي تضج بها المنطقة المحترقة، وبالطبع كان يصعب على ظريف يقف في الجوار منعني الألم من تحديد هويته أن يمتنع عن رمي "إفّيه كان حازقُه" عن البيض الذي ستسوّيه الحرارة فوراً ليصبح صالحاً للأكل بالهنا والشفا.

بعد ثوانٍ من خفوت الآلام فور انتشار البيض على المنطقة المحروقة، ربما بسبب اندهاش الجلد مما يحدث، عادت الآلام لتشعل كل ذرة في جسدي، وكان لا بد للجار الذي أفتى بالبيض أن يقول مبرراً فشل تخريفته: "يمكن عشان البيض ده مش بلدي"، فتقترح زوجته العسل شريطة أن يكون عسلاً جبلياً، لأن عسل زهرة البرسيم ليس مفيداً في هذه الحالات، وأسمع في الخلفية وسط الأصوات المتداخلة من يتحدث عن سحر اللبن الحليب في هذه الحالات، وينتفض جسدي بأكمله من التوتر فور أن سمعت سيرة الخل الأبيض تدور في الحوار، وكان لا بد بعدها أن تدلي زوجة البواب بدلوها في تفسير تشنجي الذي ربما حدث لأنني أصبحت ملبوساً بعد أن ارتكبت الخطأ التاريخي وصرخت في الحمام، ولكي تقوم بتدقيق وجهة نظرها سألت بمنتهى الهدوء "هو لما سرّخ في الحمام كان عريان؟".

...

نكمل الأسبوع القادم بإذن الله

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com