ذات كباب مع الأستاذ صباح فخري (3 من 3)
ذات كباب مع الأستاذ صباح فخري (3 من 3)ذات كباب مع الأستاذ صباح فخري (3 من 3)

ذات كباب مع الأستاذ صباح فخري (3 من 3)

بلال فضل 

للحكاية الحلوة سحر يغوي مستمعها، فلا ينشغل بصدقيتها أو دقة حدوثها، ولذلك اعتمدت فورًا حكاية أن البكاء الحاد كان أبرز ما لفت الانتباه مبكرًا إلى حلاوة صوت صباح فخري الذي روى أن أمه لاحظت بكاءه المستمر كلما زارهم أحد الأقارب، لتكتشف أن القريب السيكوباتي كان يقرص "صباح" في فخذه لكي يبكي، وحين ثارت واتهمته بالجنون قال لها: "اعذريني يا خالة فأنا أحب صوت بكائه"، وبالطبع طردته الأم شر طردة، لكنها لم تستطع أن تطرد من رأسها ما قاله عن صوت طفلها.

كان والد صباح أو صباح محمد أبو قوس، وهذا اسمه الذي وُلد به في حلب، العام 1933، محفظًا للقرآن الكريم، ومدرسًا لتجويده، ومريدًا في 4 طرق صوفية، وكان من الطبيعي أن يعده أبوه لخلافته، ولذلك حرص على أن يبدأ بتعليمه التلاوة والتجويد مبكرًا.

وحين بلغ السادسة، وأظهر نبوغًا في التلاوة، أقامت له العائلة احتفالًا عبَّر فيه والده عن سعادته، لأن ابنه سيسير في نفس طريقه، لكن "صباح" وجد نفسه ميالًا أكثر إلى الإنشاد الديني الذي استمع إليه في حلقات الذكر التي كان يقيمها أبوه، وتعلق بإيقاعات الدفوف التي كان يضربها أصدقاء والده وكانوا من أجمل مطربي التراث في حلب.

كتم "صباح" هواه الجديد عن أبيه، وفضل أن يحتفظ به لنفسه خوفًا من غضبه، وكان من هوايات طفولته أن يتسلق شجرة مشمش قريبة من الدار ويجلس بالساعات ليدندن ويغني الموشحات والأغاني القديمة التي كان يحفظها من جلسات أبيه.

وحين بلغ السابعة من عمره، استمعت إليه بالصدفة جارة تهوى الطرب، فوقفت تنتظره تحت الشجرة، وعرضت أن تعلمه أصول الغناء، وكانت معلمه الغنائي الأول، ومن أول ما علمته له موال مصري قديم يقول "غرد يا بلبل وسلّ الناس بتغريدك، الله يتم عليك يا حلو ويزيدك"، وهو الموال الذي تحول بالنسبة له إلى منهج وأسلوب حياة.

لم يكن الغناء والطرب غريبين على عائلة صباح، فزوج ابنة خالته كان منشدًا جميل الصوت تأثر به "صباح" جدًا، وأخو صباح الكبير عبد الهادي كان من عشاق الموسيقى والطرب، والاثنان عرّفا صباح، ابن الثانية عشرة، على محمد رجب عازف العود والملحن الناجح وقتها في حلب، فأعجب بصوت صباح ولحّن له عدة أغانٍ كان من أنجحها موشح (يا هلالا غاب عني واحتجب).

نجح صوت "صباح" على الفور وسط جمهور حلب التي كان عبد الوهاب يطلق عليها لقب (سوربون الفن)، وكانت تروى الأساطير عن ذائقة جمهورها الفريدة، ومن أشهر تلك الحكايات ما يرويه عبد الوهاب الذي وجد في أول حفلة له في حلب جمهورًا قليلًا في الصالة، وحين سأل المتعهد أين الجمهور؟ قال له: الجمهور أرسل لك سفراء لكي يختبروك، ولو أمتعتهم ستجد الصالة ممتلئة في اليوم التالي، لذلك لم يكن نجاح صباح فقط لأنه كان يغني على أرضه وبين جمهوره، ولكن لأنه كان يغني وسط جمهور فريد الذوق، وصعب المراس.

جذب نجاح "صباح" إليه عدة ملحنين، إلا أن صوته كان يجتاز وقتها مرحلة المراهقة الحرجة والتي لم يعبر منها مطربون كثيرون على خير، فتبدلت أصواتهم الرقيقة، وتخنشرت واغلظّت حين كبروا، ولذلك أحسن إليه أستاذه عزيز غنام حين نصحه بالتوقف عن الغناء ليحافظ على صوته، وأحسن إلى نفسه حين سمع النصيحة وعاد إلى المدرسة.

بعد أن حصل على الشهادة الإعدادية، بدأ يساعد بمصاريف أسرته، حيث عمل في أحد المصانع وفي محطة بنزين، ثم حصل على وظيفة في البلدية، وعمل بعدها كمدرس ومؤذن في جامع، ثم دخل الجيش ليؤدي الخدمة العسكرية لمدة سنة ونصف السنة.

وبعد أن ابتعد لمدة 6 سنوات عن الغناء، اتضح أن نصيحة أستاذه أنقذت صوته وزادته قوة وجمالًا، وجاءت مقابلته مع سامي الشوا لتزيد من ثقته بنفسه وتكون سببًا في التحاقه بمعهد الموسيقى في دمشق بفضل راعيه الأبرز فخري البارودي.

استفاد صباح فخري من دراسته في المعهد، وبدأ يجرب نفسه في التلحين، العام 1947، بتلحين أغنية للحجاج يقول مطلعها: "يا رايحين لبيت الله مع السلامة وألف سلام"، لكن محاولاته في التلحين لم تلقَ نفس نجاحه في غناء التراث القديم.

وكان موعده الأول مع الشهرة حين أعاد غناء أغنية نجاح سلام "يا جارحة قلبي"، ليتضاعف نجاحه الجماهيري بدءًا من، العام 1961، حين تم افتتاح التلفزيون السوري، واستدعاه صباح آخر هو الرائد الإعلامي "صباح قباني" لكي يشارك في برنامج (الموسيقى العربية).

غنى "صباح" في أول ظهور تلفزيوني له دور (أصل الغرام نظرة)، وقصيدة (قل للمليحة في الخمار الأسود) التي أصبحت من ثوابته الغنائية طيلة حياته هي، وأغنيات من تراث أبي خليل القباني مثل (يا مال الشام ـ يا طيرة طيري ـ ما لعيني أبصرت)، وأغنيات من تراث سيد درويش مثل (يا شادي الألحان ـ سيبوني يا ناس)، وأغنية مثل (ابعت لي جواب) التي يظن الكثيرون أنها من تراث سيد درويش، بينما هي من ألحان ملحن اسمه بكري كردي، وسبق أن غناها صبري مدلل، لكنها لم تعرف النجاح الساحق إلا على يد صباح فخري.

بدأت تجربة صباح فخري في التلحين تنضج وتتطور، فقدم ألحانًا ينسبها البعض لغيره مثل (خمرة الحب اسقنيها ـ غاب حبي ـ يا حادي العيس ـ حبيبي على الدنيا ـ سمراء ـ جاءت معذبتي)، واستمر في تقديم كنوز مدفونة من تراث: سيد درويش، ومحمد عثمان، وداود حسني، وعبد الرحيم المسلوب..

وفي العام 1965 شارك للمرة الأولى كممثل ومغنٍ في فيلم (الصعاليك) مع دريد لحام، ونهاد قلعي، ومريم فخر الدين، لكن فشل التجربة عرقل مشاركاته الدرامية والسينمائية، حتى اشترك في أوائل السبعينيات في بطولة المسلسل الغنائي (الوادي الكبير) مع وردة الجزائرية.

تألق صباح في أغاني المسلسل وموشحاته التي لحّنها له محمد محسن، وأمين الخياط، وإبراهيم جودت، وعدنان أبو الشامات، وعزيز غنام، الذي يرى المؤرخ صميم الشريف أنه كان البطل الحقيقي وراء نجاح صباح في المسلسل، لأنه أعاد تضبيط وصياغة كل الألحان الخاصة بصباح، فبدت أقوى بكثير من الألحان التي صنعها بليغ حمدي لوردة، والتي جاءت باهتة مقارنة بأغاني صباح فخري، لأن بليغ دخل منطقة جديدة عليه وابتعد عن ملعبه الرئيس.

تكرر النجاح التلفزيوني لصباح فخري في مسلسل بعنوان (أسماء الله الحسنى)، وبعد أن أُذيع المسلسلان، وبرنامج (نغم الأمس) الذي قدم فيه ما يفوق الـ 160 أغنية، انهالت عليه دعوات للغناء من كل الدول العربية، وارتفع أجره في الحفلات بصورة لم يكن يتخيلها، وأدخلته نجوميته إلى دائرة جديدة عليه هي دائرة أخبار النميمة في مجلات بيروت الفنية، لينشر، في آب/ أغسطس 1972، أنه يعيش قصة حب مع النجمة المصرية "نيللي"، وأنهما لا يفارقان بعضهما، وأنه شوهد معها يرقص رقصًا غربيًا غير رقص السماح الذي اشتهر به، وأنه تنازل عن شرطه بالحصول على 3 آلاف ليرة قبل أن يغني، ليجعله الوقوع في حبها يغني مجانًا في الملاهي التي يسهران فيها، ويقال إنه طلب يدها فاشترطت أن يمرا بفترة تعارف.

كل هذا نفاه صباح فخري حين سألته عنه، ليقول إنه تزوج مرتين فقط، الأولى توفاها الله وتركت له 3 أولاد، وعاش بعدها حزنًا عاصفًا، وإنه لم ينسها حتى بعد أن اقترن بزوجته الثانية التي أنجبت له ولدًا وربت أولاده من زيجته الأولى، وكانت تعامل أولاده كأمهم، لأن الظروف كانت قد اضطرته لأن يدخلهم إلى مدرسة داخلية بعد وفاة والدتهم، وحين التقى زوجته الثانية في أول لقاء منفرد بعد الاتفاق مع عائلتها على الزواج، استنكرت وجود أولاده في المدرسة الداخلية وقالت له إنها ستربيهم مثلما ربت إخوتها، فتأثر بذلك وأسرع في إتمام إجراءات الزواج.

كانت زوجته عند حسن ظنه فيها، وساعدته على أن يكمل تعليم أبنائه بالشكل الذي يحلم به، وأعتقد أن بعضهم عمل معه في مصنع لإنتاج الألبان والأجبان، ولم يكن ذلك مشروعه التجاري الوحيد، فقد عمل قبلها في المقاولات والتجارة، لكي يجبر نفسه على ألا يعمل في الفن إلا بمزاجه ولا يغني في ملاهٍ ليلية أو أماكن لا يحبها، ومما يُحسب له أنه شجّع ابنه الأصغر أنس على غناء الروك، والأغاني الغربية، وستجد له على "اليوتيوب" برامج يظهر فيها مع والده.

من المحزن أن الزمن لم يساعد صباح فخري على إكمال مشروع لتدوين التراث الغنائي الكلاسيكي بشكل منهجي، لكنني قرأت أن تجربته تم توثيقها في كتاب للباحث التونسي إلياس بودن، وأتمنى أن يتاح على الإنترنت، فضلًا عن عمل أكثر من رسالة علمية عنه درست أغانيه التي يقدر عددها بحوالي 347 أغنية، منها 110 أغنيات من الطرب القديم الذي لا يُعرف له ملحن محدد، و66 أغنية لحنها هو.

غنى صباح فخري 29 موشحًا من تلحين عمر البطش، و15 موشحًا، و 3 قصائد من تلحين عدنان أبي الشامات، ودورًا وموشحين و5 طقاطيق من ألحان سيد درويش، و 4 موشحات و 4 طقاطيق من تلحين أبي خليل القباني، و 3 أدوار من تلحين داود حسني ودورين من تلحين زكريا أحمد، وأتمنى أن تجد هذه الكنوز الغنائية من يقوم بنشرها منظمة ومرتبة على شبكة الإنترنت، خاصة أن آلاف السميعة يحتفظون بتسجيلات رائعة الجودة تم تسجيلها خلال مشواره المديد.

حين أشاهد الحوارات التي أجريت عبر السنين مع صباح فخري، وأرى كيف يكره الرجل أن يتحدث فيما لا يعرف، بل كيف يكره الحديث بشكل عام، ويفضل عليه الغناء والتطريب، أتذكر تلك الساعات الرائعة التي قضيتها معه في منزل الأستاذ محمود عوض على مدار جلستين، وكيف كان يجيب إجابات مقتضبة عن كل الأسئلة التي توجه إليه، ويفضل أن يستمع إلى كل ما له علاقة بالفن، فإذا انحرف مجرى الحديث إلى غير الفن، بدأ في إطلاق همهمات يسلّك فيها صوته ليدخل في وصلة غنائية جديدة لا يقطعها إلا بالعودة إلى الكباب الذي لا تشوبه السَلَطة أو الطحينة.

وحين عقدت العزم على ألا أسمح له بالانفراد بالكباب في الجلسة الثالثة الموعودة، لم تساعدني الظروف على تنفيذ ما عزمت عليه، فقد شممت رائحة السمك المشوي النفّاذة حين دخلت إلى شقة الأستاذ محمود الذي قال لي ضاحكًا: "معلهش الأستاذ صباح فخري اعتذر فطلبت لكم سمك"، وبالطبع كان يتطلب الأمر الكثير من النضج والابتلاء بفقدان الأحباب لكي أقدر حق التقدير نعمة الجلوس مباشرة بجوار صباح فخري الصادح بصوته الرائع الذي يغفر له قيامه بكيلو الكباب لوحده.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com