ما فاحت به تلك المزابل
ما فاحت به تلك المزابلما فاحت به تلك المزابل

ما فاحت به تلك المزابل

خيرة الشيباني

لا مناص من ألا تلتفت إلى الموت وقد أصبح على المباشر، تنقله تلفزيونات العالم، يسرق منك لذة الرشفة الأولى لقهوتك الصباحية، وما رسب في رأسك من دغدغة حلم ليلك الأخير.

عن الموت /الحي أتحدث، لا عن موت مئات المدنيين الأوكرانيين تحت قنابل التدمير المجاني، في حرب لم يختاروها ولا شاركوا فيها، ولا عن موت الشاب الجزائري الذي أنهى دراسته الجامعية في اختصاص هندسة الطيران في مدينة كييف، وبدل أن يستلم شهادته استلمه صاروخ روسي طائش أنهى حلمه، ولا عن الجندي الروسي الذي خاطب أمه قُبيل ساعات من حتفه: "ها نحن ننتقل من بيلاروسيا في اتجاه أوكرانيا، ولا أعرف لماذا وماذا ينتظرنا هنالك؟".

كل هؤلاء ماتوا وشبعوا موتًا ونسيانًا، ولم تعد تهتم بهم وسائل الإعلام، ولكن كان من الممكن، لولا الحرب، أن يظلوا على قيد الحياة وينْهلوا من مباهج الدنيا وينتظروا موتهم بشجاعة، إنما أعني الموت الذي يظل يُحوم على رؤوس الآلاف ممن ظلوا يواجهون كوابيس الحرب، وتهديداتها، ومخاوفها، وعنصريتها، وقبورها الجائعة المتشوقة لمزيد من الأرواح.

من لم يمت بصاروخ أو بقنبلة يمكن أن يموت بردًا وعطشًا وانسحاقًا نفسيًا وهو يواجه العنصرية والإقصاء، وعُقد التفوق العرقي والحضاري داخل أوكرانيا، وعلى حدودها، ذلك أن الأزمات قد تكشف لدى الإنسان عن قدرات هائلة للممانعة والصبر والتحدي والشجاعة، وقد تكشف عن القبح الإنساني في أبشع صوره.

صرخة الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجك على صفحات مجلة النوفال أوبسرفاتور الفرنسية : "هل هنالك لاجئون طيبون ولاجئون أشرار لا يشبهوننا؟" هي رد على هذا القبح الإنساني مُجسدًا في الممارسات العنصرية التي كان ضحيتها عشرات من أصحاب الهويات الأفريقية والشرق أوسطية التي تم تداولها على شبكات التواصل الاجتماعي، وعرضتها بعض القنوات التلفزيونية التي قدمت صورًا لشبان أفارقة وآسيويين يُجبرون على النزول من عربات القطارات ليفسحوا المجال لفارين أوكرانيين من نار الحرب، فضلًا عن إبقاء المهاجرين من ذوي البشرة السمراء أو الداكنة أيامًا في العراء دون أي مأوى معرضين للبرد والجوع والعطش، وسوء المعاملة، والشعور بالدونية المفروض عليهم فرضًا.

ولا بأس أيضًا أن تعلن شركة سكك الحديد الأوكرانية أن تنقل مواطنيها عبر القطارات نحو الدول المجاورة مجانًا، أما الأفارقة، والعرب، والآسيويون، الذين تركوا بيوتهم، والقليل من أموالهم، وماضيهم، ومستقبلهم، فلهم حاضرُ لهب القنابل، وصقيع الشوارع، وربما الموت المنتظر.

ولا بأس أيضًا أن تتحول أوكرانيا الضحية إلى جلاد لأولئك المُنتسبين إلى إنسانية منسية، ممن علّقوا آمالهم وأحلامهم وحيواتهم على الإقامة في بلد يتجاذبه النزوع الإمبراطوري للقطبين.

يقول صاحب كتاب "سنة الأحلام الخطيرة" الذي يرصد فيه ما اعتمل على الساحة السياسية شرقًا وغربًا، العام 2011، إنه شعر بالخجل كونه سلوفينيًا، وذلك إثر إعلان حكومة بلاده أنها تفتح ذراعيها وحدودها لآلاف المهاجرين الأوكرانيين، فيما كانت قد أعلنت سابقًا، أثناء استيلاء طالبان على الحكم في أفغانستان، أنه لا يمكن لها أن تستقبل المهاجرين الأفغان، وأغلبهم من النساء والأطفال.

وبررت لاحقًا هذا الرفض بأنهم "يأتون من محيط ثقافي ديني مختلف، في حين أن المهاجرين الأوكرانيين أوروبيون ويشبهوننا"، ودعت ذات الحكومة هؤلاء الراغبين في الهجرة من أفغانستان إلى أن يبقوا في بلادهم، وأن يصدوا الزحف الطالباني بالسلاح.

صحيح أن حكومة سلوفينيا سحبت تعليقها بعد الضجة التي أحدثه، لكن رائحة هذه "الحقيقة الفاحشة"، بحسب تعبير سلافوي جيجك، فاحت من المزبلة الأوروبية.

الواقع أن هذه الحقيقة الفاحشة فاحت من أكثر من مزبلة سياسية وإعلامية أوروبية، إذ جاء القول على ألسنة العديد من السياسيين والإعلاميين ما يفيد "هؤلاء ليسوا لاجئين من سوريا، هؤلاء من أوكرانيا، إنهم مسيحيون، إنهم بيض، إنهم يشبهوننا للغاية"، و"أوكرانيا دولة متحضرة نسبيًا، وأوروبية مقارنة ببلدان مثل العراق، وأفغانستان"، و"لا يمكن أن نتخيل أن مكان الحرب أرض أوروبية".

لا حاجة لنا أن نذكر الأسماء والمواقع، فالتصريحات الصادمة التي تقوم على فرز، لا وَصف يناسبه، بين إنسانية من درجة أولى وإنسانية من درجة ثانية، تمْتح من منزع عنصري واستعلائي واحد وتُسقط اللثام عن ازدواجية مقيتة وعن ادعاءات الغرب الاستعماري الزائفة بالدفاع عن القيم الكونية وعن حقوق الإنسان، فيما صمتت وتصمت يوميًا عما يتعرض له الشعب الفلسطيني من اقتلاع من الجذور، وتهجير، وتقتيل، ومحاولات لمحو الذاكرة، وكذلك لما يتعرض له الشعبان السوري والعراقي من عمليات القتل المادي والرمزي المتعمد، ودون العودة لما جاء في كتاب "501 الغزو مستمر" لنعوم تشومسكي الذي قدَّم فيه التاريخ الأسود للإبادة الجماعية التي قام بها سكان العالم الجديد لسكان أمريكا الأصليين.

لطالما ألهبت النخبة السياسية والإعلامية الغربية ظهورَ حكوماتنا قرْعًا، لأنها تصدت لمن يتطاول على رموز شعوبها الدينية أو منعت مظاهرات عاريات الصدور بدعوى احترام حرية الضمير والتعبير، وها هي، اليوم، وبمناسبة الحرب الأوكرانية الروسية أو الروسية الأوكرانية، تسقط أخلاقيًا لانتهاكها أبسط حقوق الإنسان في الأمن والحياة، وهي تشرع وتُسوغ للممارسات العنصرية الممنهجة التي قامت بها السلطات الأوكرانية، وسلطات الدول المجاورة عند وصفها لما يحدث على أرض المعركة أو التعليق عليه.

يقول سلافوي جيجك: "علينا أن نبني جسورًا مع دول العالم الثالث الذين لهم قوائم طويلة ومبررة من الشكاوى ضد الاستعمار والاستغلال الغربيين"، فلا يكفي أن ندافع عن أوروبا، بل مهمتنا الأساسية يجب أن تتمثل في إقناع (بلدان العالم الثالث) بأننا نستطيع أن نقدم لها خيارًا ثالثًا غير الصين وروسيا، وأن الوسيلة الوحيدة لذلك هي أن نغير ما بأنفسنا، وأن نستأصل كل أشكال الاستعمار الجديد، بما فيها تلك التي تتم تحت غطاء المساعدات الإنسانية.

الدفاع عن أوروبا؟ وماذا يمكن أن ننتظر من أوروبي حتى لو كان فيلسوفًا ومدافعًا شرسًا عن حقوق الإنسان غير الدفاع عن انتمائه الحضاري، لكنه دفاع عن أوروبا أخرى غير ملوثة بالمصالح الضيقة والعنصرية المقيتة التي تفوح من مزابل سياسييها وإعلامييها.

وبعد، هل من وجاهة لما قاله الفرنسي أوليفيه روا، المختص في الإسلام السياسي، من أن نظرية صدام الحضارات لا تنطبق على الحرب الدائرة الآن بين روسيا وأوكرانيا؟ أليست هذه الحرب في بعض جوانبها واستتباعاتها مشبعة هي الأخرى بما فاحت به روائح تلك المزابل.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com