إتيكيت
إتيكيتإتيكيت

إتيكيت

خالد شيا

أعترف أنني مازلت بعد ثلاثين عاما على مغادرتي جغرافيا الريف، عاجزا عن تخطي دروس محو الأمية في عالم الإتيكيت،
الذي تتناسل مفرداته كل يوم، مع دخول اختراع جديد قاموس التداول اليومي بطريقة تقطع الأنفاس.

أتصبب عرقا، عندما تسقط من يدي سكين أو شوكة بصوت مسموع، أفكر بالاختباء تحت الطاولة هربا من العيون التي أتوهم أنها اتسعت، وضبطتني متلبسا بفشلي، وغربتي عن المكان "المتحضر" الذي تسللت إليه دون خطة واعية للانسحاب.

في كل مرة، لا بد من التريث لحظة؛ كي لا تخطئ اليد في طريقة الإمساك بالسكين، وإجراء مراجعة سريعة للوصايا المقدسة لأدوار كل من اليدين، وقد يضطر الجالس إلى المائدة لاستراق النظر إلى طاولة مجاورة لمعرفة المكان الصحيح لوضع المنديل.

لا يستطيع الإنسان العادي تحمل الثمن الباهظ للقفز فوق وصايا الإتيكيت، التي تنتقل بالعدوى، مهما امتلك من نوازع التمرد.. ولا يستطيع غسل ارتباكه مهما ألقى من نكات متلاحقة، مبتورة، وافتعل ضحكات خرقاء.

عندما تقول، بقصد الإغاظة، لصديق قديم من عشاق القطع مع الذاكرة، وقد صنف نفسه منذ مدة في خانة "المواطن العالمي" وأحد كهنة الإتيكيت، إننا جئنا من مكان كان الزوجان فيه يذهبان معا لزيارة الجيران أو دكان القرية الوحيد، والزوج يتقدم زوجته بخمسة أمتار على الأقل كأنها مسافة أمان لمعيار الرجولة، يجيبك بتسامح مصطنع: "إيييه... فلاحين!".

الكاهن إياه، تحول هذه الأيام، وسبحان مغير الأحوال، إلى ما يشبه قائد حملة عالمية لمناهضة الإتيكيت، لا يتورع عن هجاء المصطلح وكل من "يتشدد له" من المغرضين الذين لا يفقهون شيئا في اشتراطات الحروب ومصالح الدول الكبرى، ويحاولون، عبثا، تصيد الأخطاء للرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي "مسح بكرامة الغرب الأرض" عبر استخفافه بضيفيه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ومستشار ألمانيا أولاف شولتز.

عراب الإتيكيت السابق، تبرق عيناه وهو يستذكر كيف أحرج بوتين قائدي فرنسا وألمانيا في المؤتمرين الصحفيين، وقبل ذلك استخدامه طاولة الأمتار الأربعة في مفاوضات الكرملين، دون أن ينسى بالطبع، استدعاء زمن الزعيم السوفييتي الراحل نيكيتا خروتشوف ومجد حذائه الشهير على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل ستين عاما.

تمزيق معاهدات الإتيكيت، من قبل الجبابرة يفتن كثيرين، ويلهمهم تدبيج المدائح للجيوش التي ترفع الكلفة، وتدخل خرائط الآخرين بلا استئذان، وتلتهم الحدود والمدن دون تعقيدات الشوكة والسكين ومنديل الطعام.

كاره الإتيكيت المستجد، وقد أسكرته رائحة البارود المنبعثة من الشاشات والأنباء العاجلة، يأخذ قيلولة حنين إلى "أزمنة جميلة" كان الطغاة فيها أكثر عددا، وأشد فحولة وإقداما على القتل الصريح لتخليص الحياة من رتابتها.

كانوا عباقرة منتصرين حتى في هزائمهم، جميعهم تشربوا كل حرف من تعاليم صن تزو في "فن الحرب" وكانوا أندادا للجنرال البروسي ذائع الصيت كارل فون كلاوزفيتز في الدهاء الإستراتيجي.

سردياته عن منازلتهم الموت، تتضخم كل يوم على طريقة الأساطير الشعبية، ولن تجد أحدا منهم إلا وواجه الموت بثبات ورباطة جأش واستخفاف باللحظة، سواء وقف أمام فصيل إعدام أو مشنقة، أو قرر بكامل قيافته وضع رصاصة في الرأس، أما أصوات النواح واصكاك الركب في حضرة الموت فلا تليق إلا بالصغار والضحايا الظالمين الذين "كفروا بنعمتهم"!.

لصديقي القديم حق إسقاط نظام الإتيكيت متى شاء، وتمجيد حذاء خروتشوف، وأي حذاء آخر كما يشاء، لكن الحياة تضم أيضا، سربا آخر من البشر لا يملك فائض سعادة ليبدده، على طريقة نيكوس كزانتزاكي الشهيرة، بارتداء الأحذية الضيقة.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com