داود عبد السيد.. اعتزال المعتزل
داود عبد السيد.. اعتزال المعتزلداود عبد السيد.. اعتزال المعتزل

داود عبد السيد.. اعتزال المعتزل

إبراهيم حاج عبدي

"أنا اعتزلت خلاص"..

بهذه الجملة المريرة والصادمة، أنهى المخرج السينمائي المصري داود عبد السيد حواره مع الإعلامية قصواء الخلالي في برنامج "في المساء مع قصواء"، الذي يُقدم على شاشة "سي بي سي"، ليسدل بذلك الستار على تجربة مضيئة امتدت على مدى نصف قرن، كانت حصيلتها قليلة، لكنها مميزة ومختلفة.

ولئن أخفقت إجابة صاحب "الكيت كات" بالاعتزال، ردًا على سؤال حول مشاريعه المستقبلية، في تحريك فضول الإعلامية، التي سمعت الجواب دون أي رد فعل، وأنهت برنامجها دون إثارة المزيد من الأسئلة حول مسألة الاعتزال، إلا أن هذا الجواب وجد صدًى واسعًا لدى المجتمع السينمائي الذي وجد في القرار "غبنًا" بحق مخرج له بصمته السينمائية النافرة، مع الكثير من التعليقات المناشدة للتراجع عن هذا القرار.

ودون أدنى مبالغة، يمكن القول إن إعلان عبد السيد اعتزاله السينما لا يشكل خسارة على الصعيد الشخصي لصاحب "رسائل البحر"، وإنما هو خسارة للسينما المصرية والعربية عموما، وهو بمعنى ما يمثل رثاء لمرحلة سينمائية حافلة، ولجيل ضم إلى جانب عبد السيد الكثير من الأسماء مثل خيري بشارة، ويسري نصر الله، ورضوان الكاشف، وعاطف الطيب، وعلي بدرخان وسواهم..

إذ رحل البعض منهم، فيما خلد آخرون إلى الصمت، قسرًا، بعد أن قدموا للسينما المصرية والعربية أفلاما نالت التقدير على المستويين النقدي والجماهيري.

ويعلم المتابعون لأحوال السينما المصرية، أن اعتزال عبد السيد، هو إقرار بـ"الأمر الواقع"، ويكاد يكون تحصيلا حاصلا، ذلك أن عبد السيد لم يستطع تقديم أي جديد منذ فيلمه الروائي الأخير "قدرات غير عادية"، قبل ست سنوات، لا لتقاعس لديه، وإنما بسبب المناخ الفني العام، والعجز عن تأمين ممول، رغم أن ثمة الكثير من المشاريع والسيناريوهات المتراكمة لدى عبد السيد، لكن يبدو أنها لا تتلاءم مع "المعايير الهابطة" للمنتجين الباحثين عن التسلية والتهريج والربح السريع.

وخلال تجربته السينمائية، التي بدأت منذ تخرجه من المعهد العالي للسينما، نهاية ستينيات القرن الماضي، بدا عبد السيد متأنيًا في اختياراته، حريصًا على تقديم فن يشتبك مع الواقع بكل صخبه وتحولاته وهمومه، وهو عبر فيلموغرافيا شحيحة، ضمت تسعة أفلام روائية طويلة فقط، أثبت بأنه سينمائي متمرد على السائد والتقليدي، وسعى، دائما، إلى تكريس رؤيته الخاصة بقدر من المرونة لكن دون أي مساومة إزاء الشروط الفنية والجمالية والفكرية.

ولتحقيق هذا البعد الجمالي والفكري الخاص في سينماه، تبنّى عبد السيد باكرًا أسلوب "سينما المؤلف"، فكتب معظم سيناريوهات أفلامه بنفسه، إذ استطاع أن يجسد رؤاه الفنية، آخذًا بعين الاعتبار تحقيق المعادلة الصعبة في الجمع بين الاحتفاء النقدي والإقبال الجماهيري، وهذا ما يفسر حصول أفلامه على العديد من الجوائز في مهرجانات سينمائية مرموقة.

غير أن هذا التمسك بالتعبير عن رؤيته الفنية الناقدة والجريئة، والتي لا تخضع لمعايير وشروط السوق السينمائي التجاري، أبعده لفترات عن المشهد السينمائي، فأنجز القليل من الأفلام، بيد أنها كانت على الدوام مثار إعجاب أتاح له مكانة سينمائية معتبرة، حتى جاء قرار الاعتزال كصيحة احتجاج ضد السينما السائدة حاليا، والتي تركز على التسلية والنجوم وتستهدف شباك التذاكر دون طرح أي قضية ذات قيمة.

إعلان عبد السيد اعتزاله يأتي ضمن هذا السياق الذي يكبح حرية الفن في طرح قضايا جدلية وإشكالية، فهو والكثير من مجايليه أصبحوا غرباء ومعزولين ضمن مشهد سينمائي يبدو قاحلًا بأي عمل إبداعي يقتحم الواقع المأزوم والمضطرب، ويطرح أسئلة عن هموم الطبقات المهمشة، ويتصدى للابتذال والسطحية.

"لا كرامة لنبي في قومه"، لعل هذه العبارة الإنجيلية تنطبق على عبد السيد، الذي أفنى عمره في سبيل رفعة السينما في بلاده، وها هو الآن يؤثر الانزواء بعد أن أهدى للسينما المصرية أفلامًا نالت الكثير من الاحتفاء والجوائز، وهي: "الصعاليك" عام 1985، "البحث عن سيد مرزوق" 1991، "الكيت كات" 1991، "أرض الأحلام" 1993، "سارق الفرح" 1995، "أرض الخوف" 2000، "مواطن ومخبر وحرامي" 2001، "رسائل البحر" 2010، "قدرات غير عادية" 2014 وهو آخر أفلامه.

قد يجادل البعض بأن عبد السيد (تولد 1946) تقدم به العمر، ولم يعد يقوى على إدارة فريق سينمائي والتنقل بين مواقع التصوير، غير أن هذه الذريعة لا تصلح في مجال الفن، ذلك أن لا أحد من العاملين في مضمار الفن السابع يعتزل الأحلام والأفكار والطموحات والخيال وشغف التجريب..

وفي السينما العالمية ثمة أمثلة لا تحصى عن مخرجين طاعنين في السن، لكنهم لا يزالون ينجزون أفلاما من أمثال مارتن سيكورسيزي (1942)، وستيفن سبيلبرغ (1946)، وفرانسيس فورد كوبولا (1939)، وسواهم ممن يجدون التمويل رغم التحولات الهائلة التي أصابت ظروف الإنتاج السينمائي.

ومن المؤمل أن تشجع صيحة عبد السيد شركات الإنتاج والممولين والمؤسسات الرسمية المصرية على إظهار الاهتمام بعبد السيد ومجايليه، وإتاحة الفرصة أمامه لتحقيق مشاريعه المؤجلة الكثيرة..

ومثل هذه الخطوة لن تمثل "جميلًا" تجاه عبد السيد، فحسب، بل ستخدم السينما المصرية والعربية، التي تحتاج إلى مغامرين ينقذونها من الركود والرتابة والتكرار، فالسينما أكثر رحابة من مجرد "شورت وفانيلة وكاب".

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com