الهموم البسيطة
الهموم البسيطةالهموم البسيطة

الهموم البسيطة

نظير مجلي

أحمد الحلو كان فرحاً بشكل غير عادي.

عندما غادر مكتب الشؤون المدنية في رام الله، راح يعانق كل من يقابله، نسي كورونا وقيودها، احتضن حتى الحارس والبواب، كانت عيناه تلمعان وهو يخبر: "وأخيراً أخذتها".

منذ سنة 2007، وهو يحاول الحصول على بطاقة هوية، ولا يجد فرصة؛ كان يتلقى وعوداً.

وفي سنة 2008، استجاب رئيس الوزراء الإسرائيلي لطلب السلطة الفلسطينية وأصدر أكثر من 30 ألف بطاقة هوية فلسطينية، لكن أحمد لم يكن بينهم.

وعندما فاز بنيامين نتنياهو بالحكم، في سنة 2009، صارت حتى الوعود بلا أمل، فقد قرر وزير الداخلية في حكومته، أريه درعي، وقف إصدار هويات فلسطينية جديدة.

أجل، إنه ليس خطأ مطبعياً؛ فالفلسطيني في الضفة الغربية أو قطاع غزة، لا يستطيع الحصول على بطاقة هوية فلسطينية، إلا إذا وافقت وزارة الداخلية الإسرائيلية، فاتفاقيات أوسلو، في سنة 1993، تنص على ذلك.

وعند التوقيع عليها، كان يفترض أنها مؤقتة لمدة خمس سنوات، وكان مقرراً أن يتم التفاوض خلال هذه الفترة على التسوية الدائمة، التي أراد الفلسطينيون أن تفضي الى دولة، لكن اليمين الإسرائيلي اغتال إسحق رابين واغتال معه هذه الاتفاقيات، وبقيت السلطة الفلسطينية سلطة حكم ذاتي، تصارع من أجل الاستقلال ولكن بلا منال.

وأحمد الحلو - وهذا اسم مستعار - هو واحد من عشرات ألوف الفلسطينيين الذين حرموا من بطاقة الهوية.

وبطاقة الهوية في فلسطين ليست مجرد بطاقة، بل إنها الوجود، بكل ما تعنيه الكلمة. ومن دونها لا يستطيع عبور حاجز إسرائيلي.

فإذا أخذنا بالاعتبار أن هناك أكثر من 100 حاجز كهذا في الضفة الغربية وحدها، وهناك حوالي 3 آلاف حاجز طيار، يقيمها الجيش الإسرائيلي بشكل مفاجئ، وباستمرار، فإن أحمد والألوف أمثاله لا يستطيعون مغادرة البلدة التي يعيشون فيها إلى أي مكان آخر، لا يستطيع السفر لتلقي العلاج أو للعمل أو للتعليم أو لطلب عروس.

وما حصل في الأسبوع الماضي أن الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، جاء لزيارة وزير الدفاع الإسرائيلي في بيته، في رأس العين، وفي اللقاء أبلغه غانتس بقرار حكومته منح حزمة تسهيلات على حياة الفلسطينيين، بينها 13500 تصريح جمع شمل، أي منح الهوية الفلسطينية المذكور.. وأحمد هو واحد من هؤلاء.

صحيح أنه ما زال يعاني من شظف العيش تحت الاحتلال، الذي يفرض قيوداً بشعة على الناس ويجعلهم يعيشون في سجن كبير، إلا أنه ينتقل اليوم إلى سجن أكبر.. حيز الحرية فيه اتسع قليلاً، وبات يشعر بشيء من الانفراج.

انفراج نسبي لكنه مهم جدًا له.. في بعض الأحيان يكون هذا الحيز فارقاً ما بين الحصول على لقمة الخبز واللهاث وراء لقمة الخبز. وفي بعض الأحيان يكون هذا فارقاً ما بين الحياة الكريمة والحياة الذليلة، وربما فارقاً بين الحياة والموت؛ فالحواجز العسكرية قتالة.. يكفيك أن ترتكب خطأً أو تصطدم بجندي خائف أو مستوطن حاقد، حتى تفقد حياتك بلحظة.

حزمة غانتس احتوت أيضاً على تسهيلات أخرى: تصاريح عمل في إسرائيل، حيث يبلغ الراتب ثلاثة أضعاف الراتب في الضفة الغربية، ضمانات اجتماعية، تصاريح لأصحاب عمل، رخص تصدير إلى إسرائيل لمصانع فلسطينية في الخليل وغزة، موافقة على إدخال مواد خام لتشغيل مصالح صناعية وزراعية، زيادة كمية مياه الشرب ومياه الري، حوالي ألفي تصريح بناء.

يمكن أن تكون هذه نقطة في بحر، أمام احتياجات الفلسطينيين الملحة، ويمكن أن تكون شيئاً قريباً من الصفر بالمقارنة مع الحق الفلسطيني في التخلص من الاحتلال الهمجي والحصول على الاستقلال الوطني. ولكن، من يهمه أمر الناس البسطاء ومعاناتهم الشديدة، لا يجد نفسه في خندق واحد مع أحمد وأمثاله.

إن النضال ضد الاحتلال ومن أجل الاستقلال هو حق وواجب، ولا يجوز أن يتوقف. ولكن، هذا النضال يحتاج إلى قيادة حساسة تحترم هموم الناس العاديين، بما في ذلك الهموم البسيطة.

وعندما تكون القيادات مشغولة في انقسامات وصراعات على كراسي حكم وهمية، ومصالح حزبية وشخصية، تصبح هموم الناس في الحصول على لقمة خبز، وعلى علاج طبي لهم أو لأولادهم أو لأهلهم، وفي الحصول على فرص تعليم وعلى نشاط ثقافي وعلى صلاة في المسجد الأقصى أو كنيسة القيامة في القدس، أو القيام بزيارة تعزية أو المشاركة في فرح، تصبح هذه الهموم مقدسة.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com