رماح الموناليزا الأفغانية
رماح الموناليزا الأفغانيةرماح الموناليزا الأفغانية

رماح الموناليزا الأفغانية

رمزي الغزوي

إن كان العلم وصل إلى قراءة شافية وافية لبسمة الموناليزا الإيطالية، لوحة الفنان الشهير ليوناردو دا فينشي، عبر برمجية حاسوبية فكّكت ما فيها من غموض وفرح وخوف وغضب. فهل يمكنه أن يقرأ اليوم، عينيّ الموناليزا الأفغانية، وقد أزرت بهما حروب وويلات، وكسرت رماحهما كروب وعثرات؟. كيف يمكن قراءة عينين عطش عشبهما، وذبلت بهجته؟ كيف نقرأ عينين تنوبان عن شعب حين صار قاب نظرتين من حياة آمنة، سقط من جديد في أتون "طالبان".

ما أصعبَ لغة العيون أيها الحاسوب، وما أسهل قراءتها بالنسب المئوية والأرقام الباردة. ما أصعبَها من لغة، وما أبسطها في آن؛ ليس لأن العين هي الإنسان بكامل دهشته ووحشته، أو لأن كرتها تظل ثابتة الحجم منذ صرخة مهدنا حتى بسمة اللحد. بل لأن العينين تصيران ثقبين أسودين يمتصان جل المعاني وظلالهما. وسيبقى الأصعب من هذا كله، أن تعود إلى صورة اشتبكت معها بحرب تأويلات ساخنة قبل 36 سنة.

فرِحتُ لإعلان إيطاليا الخميس الماضي بأنها ستقدّم ملاذا آمنا لشربات جولا، تلك الأرملة التي لقبت بالموناليزا الأفغانية، بعد أن نشرت صورتها التي نشرت على غلاف مجلة "ناشونال جيوجرافيك" عام 1985، وقد قرأ العالم حينذاك في عينيها الخضراوين ويلات الحرب وبؤسها.

أذكر تلك الصورة، وكأني الآن أطالعها. أذكرها وأستشعر وخزات تلك الرماح التي انهالت عليّ مِن غابة عينيها. كنت حينذاك في الصف السابع، وقد وصلت إلى مركز شباب بلدتنا نسخة من المجلة عبر ضيف عابر. يومها ظللت حائرا أدور حولي متساءلا عن سر هاتيك العينين، عن معنى القوة المجبولة بماء الخوف. عن جفاف الأمل حين يغدو رمحا على وشك الطِعان.

صحيح أن المرأة، وعبر تاريخ الإنسانية الممرّغ بالأحمر كانت هي الأقل قتلا في الحروب، ولكنها كانت وستبقى الأكثر خسارة وبؤسا وحزنا، فهي المسبية والأرملة والثكلى واليتيمة واللاجئة الحائرة التي قدرها أن تطرق أبواب المخيمات في أصقاع الأرض.

قبل خمس سنوات، وحين كُشف عن أمر جولا في الباكستان، أعيدت إلى بلادها تحت وطأة ضغطات الإعلام وسطواته، فاستقبلها الرئيس الأفغاني، وأعطاها بيتا، وربما أملا أن تعيش في ملاذ آمن في أرضها مع ابنتيها. لكن تلك بلاد غير رحيمة بنسائها، ولا بأطفالها، ولا حتى برجالها. تلك البلاد المرهونة للوعورة والجفاف والصخور والمخدرات والتطرف والمجهول. ولهذا يحزنني أن كثيرا من أبنائها وبناتها يخوضون الساعة حربا ضروسا ليحصلوا على تصريح وصول إلى منافي العالم محملين بأوجاع لم تبرأ ولن تبرأ قريبا. تحزنني أفغانستان التي لم تخرج من حرب إلا لتدخل أخرى، ولم يصدف أن عاد السلام إليها. بل ظل الموت طائفا في أرجائها، وكأنها قنعت بعيش الجنازات.

بعد أن تعيش الموناليزا الأفغانية في إيطاليا حياة هانئة طيبة، كما أتمناها لها، ويعود النسغ إلى عشب عينيها من جديد؛ سأطلب من المصور الأمريكي ستيف ماكوري، صاحب العدسة التي التقطت صورتها الأولى في مخيم ناصر باغ على الحدود الباكسانية، أن يقطف لنا صورة لها؛ كي نرى رماح العينين حين تشرئب بهما شمس الأمن والسلام.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com