خير الكلام اللبناني في السلام مع الإسرائيلي
خير الكلام اللبناني في السلام مع الإسرائيليخير الكلام اللبناني في السلام مع الإسرائيلي

خير الكلام اللبناني في السلام مع الإسرائيلي

ثمة اتجاهان فكريان متناقضان لا يلتقيان عادة مع بعضهما البعض في لبنان إلّا على الورق المكدّس في إضبارات "الصيغة التوافقية" المعتمَدة دستوريًا؛ لطمأنة اللبنانيين على مصيرهم المشترك تحت مظلة "الوحدة الوطنية"، منذ عشرات السنين.

أمّا على الأرض، فلا شيء من الأوراق الدستورية يمكن إيجاده، في هذه الأيام الصعبة، إلّا أوراق الخريف المتساقطة، باضطراد، عن أشجار الروّاد الكثُر لهذين الاتجاهين الفكريين، وبكثافةٍ متناهيةٍ، وصلت إلى حدّ الإيحاء بأنّ كليهما بات يفتّش حاليًا عن "ورقة التوت" التي يمكن أن تؤهّله لكي "يتستّر" بها عن أخطائه الغابرة.

سيل الأمثلة على"الكيدية – التوافقية" بين أبناء البلد الواحد له أول وليس له آخر في التاريخ اللبناني الحديث، بدءًا من زمان حرب العام 1975 التي لم يتفق اللبنانيون لغاية يومنا الراهن عمّا إذا كان في الإمكان توصيفها بـ"الحرب الأهلية" أو "حرب السنتين" أو "الحرب اللبنانية – الفلسطينية" أو "حرب الغرباء على أرض لبنان"، وانتهاءً بالجدل المتواصل حول ما إذا كان "اتفاق الطائف" الذي تمّ إبرامه في العام 1989 برعاية المملكة العربية السعودية؛ من أجل إنهاء تلك الحروب مجتمعة، قد أدّى بالفعل إلى إطفاء لهيب نزعة التلهّف إلى خوض المعارك في عقول اللبنانيين.

أغلب الظن، وإنّ بعض الظن إثم، هو أنّ المأزق الداخلي الراهن في لبنان ليس ناجمًا عن تراكم الصراعات الدولية والإقليمية على حقول المصالح والنفوذ في العالم، بقدر ما هو ناجم عن تراكم إرهاصات مكوّنات الطبقة السياسية المحلية، التي عوّدتنا دائمًا على رؤية مشهديات تموضعها للوقوف على أهبّة الاستعداد؛ من أجل خدمة مصالح الخارج الدولي والإقليمي في الداخل اللبناني.

ولسيل الأمثلة، هنا أيضًا، الكثير من الدلالات الهامة، بدءًا من زمان "تحرير" الجنوب اللبناني من الاحتلال الإسرائيلي في العام 2000، وانتهاءً بالتصريح الشهير الذي جاء على لسان الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله عندما قال في أعقاب انتهاء حرب تموز (يوليو) العام 2006 ما حرفيته: "لو كنتُ أعرف أنّ ردّ الفعل الإسرائيلي سيكون بهذا الحجم لما كنتُ قد أمرتُ بأسر الجنديين الإسرائيليين".

وللتذكير، فإنّ قرار أسر الجنديين الإسرائيليين الذي تمّ اتخاذه في أوساط قيادات حزب الله من أجل التخفيف من حدة الحصار الذي فرضته الدولة العبرية، حينذاك، على قطاع غزة، سرعان ما جعل النتيجة تأتي في محصلّتها النهائية على حساب لبنان.

وللتذكير أيضًا، على المقلب الآخر، فإنّ نجاح الانتفاضة السلمية الأرقى من نوعها في التاريخ اللبناني الحديث العام 2005، في إخراج القوات السورية من لبنان بعد 29 عامًا من العبث في شؤونه الداخلية، سرعان ما تحوّلت من نعمةٍ إلى نقمةٍ، لا سيما بعدما أظهرت الوقائع أنّ "قوى 14 آذار" التي تمكنّت من إخراج 30 ألف جندي سوري من لبنان، بموجب هندسات إقليمية ودولية معيّنة، هي نفس القوى التي لا يزال من تبقّى اليوم من رموزها يعملون، بجدّ وكدّ، بموجب هندسات إقليمية ودولية معيّنة أيضًا، على إبقاء أكثر بكثير من 30 ألف جندي سوري، من أصل مليون ونصف المليون إنسان سوري ممّن نزحوا في أعقاب موجات "الربيع العربي" إلى لبنان في العام 2011، في لبنان.

هكذا يبدو المشهد العام فوق مساحة الـ10452 كيلومترًا مربعًا من منطقة الشرق الأوسط التي تتشكّل منها الخريطة اللبنانية، سورياليًا، حيث أصبح القلق الوجودي خيالًا يلازم روّاده، حتّى في الأحلام.

وهكذا يبدو أنّ "الصيغة التوافقية" المعتمَدة في الدستور اللبناني باتت كابوسًا مطبقًا على مريديها حتّى النخاع.

إنها معضلة عدم التوافق بين اللبنانيين، في إطار هذه الصيغة، على أيّ شيء، بدءًا من زمان الهدنة المعلَنة بين لبنان وإسرائيل في العام 1949، مرورًا بزمان الانقسام على مشروعية الحضور الفلسطيني إلى الأراضي اللبنانية في العام 1970، وانتهاءً بما عانى البلد منه جرّاء هذا الحضور خلال عقديْ السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين.

وإذا كان عضو اللجنة التنفيذية في منظمة التحرير الفلسطينية الراحل صلاح خلف (أبو أياد) قد ضلّ طريقه إلى القدس حينما قال، في السبعينيات، إنها تمر عبر مدينة جونية اللبنانية، من دون أن يصل إليها، قبل أن يعتذر الشاعر (الراحل) محمود درويش عن المغزى في فحوى كلام أبو أياد، فإنّ ما ينبغي علينا قوله؛ نحن اللبنانيين، هو أنّ طريقنا، من بيروت إلى القدس، لم يكن يحتاج إلى أكثر من سيارة نسافر على متنها عبْر الطريق الساحلية باتجاه الدامور، ثمّ صيدا، ثمّ صور، ثمّ رأس الناقورة، ثمّ عكّا، ثمّ حيفا ويافا، ثمّ تل أبيب، لننعطف يسارًا في نهاية المطاف صوب القدس.

وهذا الطريق الذي سرتُ عليه، شخصيًا، منذ ما يزيد على الثلاثين عامًا من الزمان، ما زال يحفّزني على القول إنّ السلام في لبنان ممكنٌ إذا ما توفّرت له شروط المساكَنة الهادئة، بموجب الهدنة المعلَنة بين البلدين في العام 1949.

سلامٌ، وإنْ ظلّت فرضيات ثقافة التلغيم والتفجير جاهزة للاستخدام على الدوام في صواعقه، فهذه فرضيات لا تحتاج إلى أكثر من قدرات اللبنانيين وحدهم على فكّ شيفراتها.

واليوم بات من المرجّح أنّ اللبنانيين عازمون على القيام بهذا الفعل.

وإذا كانت الآراء والتقديرات في لبنان حول تفسير النتائج التي أسفرت عنها زيارة وزير الخارجية عبد الله بو حبيب الأخيرة لموسكو، بين اتجاهين متناقضين، أحدهما يرتكز على التشكيك بجدوى تسلّم السلطات اللبنانية صور الأقمار الصناعية الروسية لما "قبل وبعد" الانفجار الهائل الذي دوّى في مرفأ بيروت في 4 آب (أغسطس) العام 2020، والآخر على التسليم بأنّ مساهمة الجانب الروسي في تقديم الصور يمكن أن تؤدي إلى قلب الموازين في التحقيقات اللبنانية الجارية حالياً بشأن الانفجار رأساً على عقب، فإنّ الاتجاهين المتناقضين يعبرّان، في المحصلة النهائية، عن نتيجة الانقسام التقليدي الحاصل في التركيبة اللبنانية.

أحدهما يُوافق، وأحدهما يُعارض، وما بين التيارين الفكريين المتناقضين ثمة شعب منكسر لم يقُل كلمته الهادفة حول جدوى الحرب والسلام بعد.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com