الإمارات والرهان الصعب
الإمارات والرهان الصعبالإمارات والرهان الصعب

الإمارات والرهان الصعب

من عام مضى تناولت في هذه المساحة ذكرى استقلال وقيام دولة الإمارات العربية المتحدة، وقلت إنها تطل  كشعاع نور، في عتمة ليل عربي طويل مبشرة – رغم كل شيء – بفجر آت، ومجددة – كما في  كل عام – أملا كاد يختفي تحت ركام من اليأس،  وجبال من الإحباط.

وقلت إن احتفاء العرب بذكرى قيام اتحاد الإمارات، لا يشكل مشاركة في مناسبة وطنية تخص شعب الإمارات فحسب، بل باعتبارها ذكرى من  ذكريات الزمن الجميل، الذي كان يتسع لأحلام، وآمال العرب التي لم يعد بإمكان أحد الجهر بها، أو حتى استحضارها، أو التحسر عليها.

كان نجاح  تجربة الإمارات الاتحادية نتاج العمل الميداني، أكثر من كونه تطبيقا لوصفة سياسية، وكان تطورها نابعاً من الاحتياجات الفعلية، لا انعكاساً لاجتهادات وطروحات نظرية.

في ذلك الزمن البعيد، المثقل بإرث قاس من التخلف الاجتماعي، والمعاناة المعيشية، المزنر بحزام من المؤامرات، لم يكن أمام الآباء المؤسسين للتجربة الاتحادية الإماراتية،  ترف الاختلاف على التفاصيل، أو الوقت للإمعان في مراجعة الحيثيات والأسباب والمعطيات، كان يكفيهم تحديد الهدف، والاعتماد الإخلاص كبوصلة تخرجهم من متاهة التفسير ودهاليز التأويل، وصولا إلى المسار الأقرب، والطريق الأوضح.

لم يتقن المؤسسون لعبة قفز الحواجز، لكنهم كانوا خبراء في تسلقها. كان التدرج، والصبر  في الوصول إلى الهدف، هو الوصفة السحرية التي ابتدعها مؤسس التجربة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، الذي كان يقول وهو يواصل بدأب لم يعرف الكلل، ونشاط لم يُصِبه الوهن والملل: “ما لا نستطيع تحقيقه اليوم نحققه غداً، وما لم نتفق عليه اليوم أو غداً نجتمع حوله بعد غد”.

وبوحي هذه الفلسفة وبهذه المقاربة، تطورت التجربة الاتحادية الإماراتية ونضجت على نار هادئة، لم تعرف ما عرفته التجارب العربية الأخرى التي كانت تشعلها حماسة غير منضبطة، وتطفئها أنانية مفرطة.

الصيغة الأولى لاتحاد الإمارات العربية المتحدة، بدت للبعض صيغة كاريكاتورية، فقد كانت أقرب لتجميع أشلاء مبعثرة بطريقة عشوائية. فكل إمارة من الإمارات السبع المكونة للاتحاد لها عَلمها الخاص، وقواتها المسلحة الخاصة، بل إن لبعضها قنوات اتصالات  مستقلة بالمحيط الخارجي، هذا فضلا عن الاستقلال في الموارد المالية والنفطية. كانت تلك الصيغة أشبه بإطار عمل أكثر من كونها صيغة تعايش نهائية.

عشية إعلان الدولة في الثاني من ديسمبر عام 1971 لم يكن يَجمع أعضاء الاتحاد إلا صيغة دستورية هشة اعتقد الكثيرون أنها لن تلبث أن تتحطم أمام جبل المؤامرات والدسائس والمطامع التي كان تقف في طريقها، وتعوق تقدمها.

لم تكن أسعار النفط، في ذلك الزمان، قد تجاوزت خمسة دولارات للبرميل، وكان الإنتاج لا يزال في مراحل التطوير أو التنقيب، لكن الشيخ زايد، رحمه الله، لم يتردد في تسخير تلك الموارد الشحيحة لخدمة المشروع الوحدوي، بل إن هناك من لامه على ما اعتقدوا أنه تبديد في مشروع طوباوي، عندما كان يأمر بتنفيذ مشروعات تنموية وخدمية في مناطق نائية، أو بإنشاء طرق لربط مناطق بعيدة في أطراف الدولة الجديدة.

كانت فكرة تأليف القلوب حول فكرة الاتحاد، وتجسيده في مشروعات تعكس مصالح الناس وتعبر عن احتياجاتهم هي ما سعى إليه الشيخ زايد، رحمه الله، وكان يدرك بنظرة استشرافية فطرية، أنه يستثمر في المستقبل، وأن ما يتردد البعض في قبوله اليوم، سيكون حافزاً لهم غدا.

كان رهان الشيخ زايد، رحمه الله، على الاتحاد رهانا صعبا. لم يكن يخشى خذلان الداخل بقدر ما كان حذراً من مؤامرات وتحديات الخارج. في أول أيام قيام الاتحاد تعرضت الدولة الوليدة لعدوان إيراني سافر إذ أقدمت قوات الشاه في ذلك الوقت على احتلال ثلاث جزر إماراتية مستغلة خروج بريطانيا المفاجئ من المنطقة، أو منفذة لاتفاق مرتب مع طهران. لم يكن أمام الإمارات في ذلك الوقت ما ترد به، فعضت على جرحها وحولته من عامل إحباط لتجربتها الوليدة إلى عنصر تحفيز لتأكيد أهمية الاتحاد والتمسك به كخيار في مواجهة أطماع الآخرين.

لم ينظر الشيخ زايد، رحمه الله، لعملية البناء والإعمار كضرورة تنموية واجتماعية، بل كضرورة سياسية أيضا، فالتنمية هي التي حصنت تجربة الاتحاد وأكسبتها المنعة، وحمتها وجعلت منها تجربة ناضجة قادرة على أن تكون أنموذجاً للآخرين وعلامة من علامات جودتها وتميزها.

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com