من يدفع ثمن "لعم" البريطانية؟
من يدفع ثمن "لعم" البريطانية؟من يدفع ثمن "لعم" البريطانية؟

من يدفع ثمن "لعم" البريطانية؟

دخلت بريطانيا الاتحاد الأوروبي، وهي تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، وخرجت منه دون أن تقول نعم حاسمة، و لا "لا" كافية، لحسم الجدل بين البقاء والخروج، وهي في هذا كمن يقول "لعم" في تعبير يجمع الرفض و القبول، كما جُمِعَ التفاؤل والتشاؤم في كلمة  "المتشائل"، الذائعة الصيت.

وعلى غير عادة البريطانيين الذين لم يألفوا ثقافة الصدمة، ولم يعتادوا على المفاجآت، جاءت نتيجة الاقتراع على غير ما يشتهي الداعون للبقاء ضمن الوحدة الأوروبية، وعلى غير ما كان يأمل الساعون للخروج منها.

بريطانيا، التي رفضت على مدى عقودٍ الاندماج الكامل في الاتحاد الأوروبي، وحافظت على مسافة منه تحفظ لها ما تعتبره هوية وطنية، وتحفظ للتاج البريطاني تاريخه كقوة عظمى لم تكن الشمس تغيب عن الأراضي التابعة له، تكشف اليوم عوراتها للعالم.

دولة عجوز يتهددها شبح التقسيم، وتتخوف من أزمات تطيح بوحدتها الوطنية، وعلاقاتها بالجوار، وعبر البحار، وبالجينه الإسترليني الذي ظل مظهرًا من مظاهر الممانعة الذي حماها من الذوبان، ورمزًا من رموز الاستقلال الذي دافعت عنه المملكة المتحدة طوال عضويتها في النادي الأوروبي.

وإذا كانت بريطانيا قد دخلت الاتحاد الأوروبي بشروطها، وبالحدود التي ارتضتها، فإنها بعد أن أدركت، الآن، مخاطر فك الارتباط، لن تكون قادرةً على العودة، بنفس الشروط ونفس الأسس السابقة التي دخلت بها الاتحاد الأوروبي، لأول مرة، حتى لو نجحت في إعادة عقارب استفتاء الخروج إلى الوراء، من خلال تنظيم استفتاء جديد للعودة.

فقد مضى، على ما يبدو، الزمن الذي كانت فيه لندن تملي شروطها على باقي شركائها في أوروبا، بعد أن بيّن الاستفتاء الأخير، أنه لم يكن تعبيرًا حقيقيًا عن مصالح البريطانيين، بقدر ما كان نوعًا من المماحكة السياسية التي مارستها بعض القوى التي صوتت لصالح الخروج، دون أن تقدر أو تحسب عواقبها ونتائجها.

بريطانيا، إن نجحت المساعي التي تجري الآن لتنظيم استفتاء جديد للبقاء في الاتحاد الأوروبي، ستدفع ثمن غلطة الشاطر، وهي بألف مما كانوا يعدون. والمعاملة التفضيلية و الاستثناءات التي كانت تتمتع بها، إن على صعيد العملة النقدية أو على صعيد حرية الانتقال والدخول ضمن الاتحاد الأوروبي لن تستمر، فلندن اليوم طالبة لا مطلوبة، ومن يطلب لا بد أن يخضع للشروط، بعكس المطلوب الذي يفرض شروطه.

أوروبا تدرك اليوم أنها في موقع القادر على فرض الشروط والاملاءات، خاصة بعد أن شعرت أن بريطانيا، لا تريد العودة طمعًا في المكاسب التي كانت تجنيها من عضويتها في الاتحاد، بقدر ما تعمل لاحتواء الزلازل التي تهدد المملكة المتحدة نفسها بالتفكك، خاصة وأن النوايا في هذا المجال أصبحت واضحة، والخطوات باتجاه الاستقلال عن التاج البريطاني باتت معدودة ومعروفة.

فاسكتلندا التي خرجت للتو من استفتاء صعب للانفصال عن المملكة المتحدة، تجد اليوم أن الطريق أمامها بات ممهدًا لإعادة الكرة، لكن بمعطيات جديدة تُقنع الاسكتلنديين هذه المرة  بضرورة الاستقلال وجدواه، بعد أن أصبحوا على قناعة شبه كاملة أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يلحق ضررًا باسكتلندا، أكثر من الفوائد التي تجنيها  بلادهم، من البقاء تحت العرش الإنجليزي.

ويبدو أن الارتباك الذي أصاب المجتمع البريطاني من جراء خروج بلادهم من الاتحاد الأوروبي قدّم نموذجًا معاكسًا لما أراده اليمين الأوروبي المتطرّف، فبدلاً من أن تكون بريطانيا هي القدوة لكل القوى الأوروبية التي ترفع شعارات الاستقلال عن الاتحاد، أصبحت البعبع الذي يتخوف منه كل من يتجرأ على خوض التجربة البريطانية، أو يحاول أن ينسج على منوالها.

بريطانيا، بالاستفتاء الذي أجرته، لم تضعف موقفها فقط، بل قوّت الاتحاد الأوروبي، الذي صارت العودة إليه صعبة المنال حتى لمن ظل يتمنع عقودًا، ليظهر، بعد فوات الآوان، انه يتحرق شوقًا لعقد القران.

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com