مؤامرة مشروعة
مؤامرة مشروعةمؤامرة مشروعة

مؤامرة مشروعة

يهرب بعض الإسلاميين من وزر ما ترتكبه التنظيمات المتطرفة من فظائع باسم الإسلام، إلى نظرية المؤامرة، في محاولة للتبرؤ من الظاهرة، رغم أن كثيرًا مما يحملونه من أفكار وما يقدسونه من نصوص، تلتقي في المآل عند نفس المنعطف الذي أنتج كل ما نشهده من أشكال التطرف والغلو.

نظرية المؤامرة هي شكل من أشكال التفكير والتفسير لبعض التحديات والظواهر المؤثرة في المحيط الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. وغالبًا ما لا يكون هذا التفسير مرتبطًا بمعلومات موثقة، بل بانطباعات قائمة على ربط تعسفي بين عناصر متفرقة لرسم سيناريوهات مفترضة، للوقائع والأحداث.

هذا التفسير هدفه، عند البعض، نفي التهمة أو تغطية قصور أو خلل، لكنه يمثل، بالعموم، حالة إنكار للعجز والفشل، وغايته التهرب من المواجهة والمسؤولية، وتبرير التقاعس، بتوجيه اللوم والتأنيب للغير.

وحتى لا نكون مثاليي التفكير، فإن إنكار المؤامرة بالمطلق هو، أيضا، أمر غير صحيح، وغير مقبول.

فالمؤامرة هي جزء من أساليب مواجهة التحديات والدفاع عن المصالح، لكن ضمن أسس واقعية وليس على أساس سيناريوهات وهمية مفترضة، أو انطباعات نظرية. وهي بالمحصلة نوع من الترتيبات التي من شأنها خدمة مصالح مختلفة، ومواجهة تحديات معينة ضمن مدى زمني محدد.

وثمة فرق بين نظرية المؤامرة بمعناها المطلق الذي تفسر به كل الظواهر والأزمات وكأنها حالة قدرية لا يمكن الفكاك منها أو التحلل من سلطانها، والمعنى العملي الواقعي الذي يحصرها في الكيفية التي توظف فيها الفرص والإمكانيات، في لحظة معينة، وضمن معطيات حقيقية، لتحقيق هدف معين.

وإذا جاز التعبير، فإن المعنى الثاني للمؤامرة، نوع مشروع، ومقبول ومعترف به كأسلوب للتعامل مع الأزمات.

وقد اعتادت الدول والمؤسسات رسم استراتيجيات عمل سرية للاستفادة من الظروف والفرص والمستجدات، أو لاستشراف الإمكانيات، بما يتناسب مع كل حالة ومع كل ظرف.

ومن أجل ذلك أنشئت دوائر المخابرات ووكالات الاستخبارات وجندت عناصر التجسس والرصد وجمع المعلومات التي تكلف بمهمات شأنها في هذا شأن بقية المؤسسات الأخرى.

ما حدث في عالمنا العربي كان غير ذلك، فقد ظللت نظرية المؤامرة حياتنا منذ مطلع القرن الماضي، ليصبح تاريخنا الحديث بأزماته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية، نتاج مجموعة من المؤمرات الكونية التي حيكت ضد العالم العربي والإسلامي، محملينها وزر كوارث ونكبات لم نبرأ منها إلى الآن.

فإذا تحدثنا عن تفتت الأوطان، رجعنا إلى ما وصفناه بمؤامرة الخروج على الحكم العثماني، وإنهاء الخلافة الإسلامية التي اعتبرناها أس الأزمات ومصدرها في عالمنا العربي، رغم أنها لم تكن عند انهيارها إلا ذكرى بالية لقرون من الجهل والانحطاط والتمزق، والتي تبرأت منها تركيا نفسها، عندما بدأت صياغة مشروعها الحضاري الذي أعادها لواجهة القوى الإقليمية المؤثرة في العالم.

وإذا تحدثنا عن المشروع الصهيوني في فلسطين، فإننا سنجد من يقول إنه جزء من خطة محكمة رسمها حكماء صهاينة للسيطرة على العالم، وإن خضوع بريطانيا لابتزاز الحركة الصهيونية بمنح وعد بلفور، هو أول إرهاصات تلك الخطة. لكننا، في حمأة الدفاع عن نظرية المؤامرة، تجاهلنا أن الشرق والغرب أيدوا بأشكال مختلفة قيام إسرائيل وكانوا عونًا لها في ترسيخ وجودها في المنطقة.

تحت تأثير وهم المؤمرات الكونية التي تحاك ضد العالم العربي قبلنا أنظمة فاشية بذريعة أنها أنظمة تصد وصمود، ليتضح لاحقًا أنها ليست أكثر من كيانات ورقية فاقدة للقدرة والمشروعية.

اليوم ومع أفول المشروع القومي، ومع خطر التقسيم الذي يتهدد الكيانات الوطنية في العالم العربي، نعيد من جديد الحديث عن المؤامرة الكونية في معرض تفسير ظاهرة التطرف والإرهاب جاعلين من الظاهرة صناعة غربية، ولأهداف استعمارية.

وبدلا من أن نقف وقفة مراجعة للأسباب التي أوصلتنا إلى هذا المنعطف الخطر، وبدلا من إعادة النظر في موروثنا الديني وتنقيته من الشوائب التي لوثت صورته، ووظفته في خدمة أهداف ومصالح الآخرين، أخذنا من جديد نتحدث بلا ملل، عن مؤامرة خبيثة يتعرض لها الإسلام، فكرًا ووجودًا، في وقت لم نتفق، نحن فيما بيننا، على قواسم مشتركة، تمنع حروبنا الطائفية والمذهبية، وتمنع انتهاك الكرامات ناهيك عن الحريات، وأكثر من ذلك تمنع تحول اختلاف الاجتهاد والتفسير إلى مزادات للتخوين والتكفير.

وعوضا عن الانصراف لمواجهة التحديات بالشكل الذي واجهت به الدول الأخرى الأزمات والحروب التي تعرضت لها، دخلنا في معارك مفتوحة لا نملك إمكانيات خوضها ولا نعرف وسائل الخروج منها، وصرنا بدلا من ذلك، ننتقل من حرب إلى أخرى، في حلقة مفرغة لا ندري متى نخرج منها.

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com