المفاجأة الروسية
المفاجأة الروسيةالمفاجأة الروسية

المفاجأة الروسية

يُذكّر إعلان الرئيس فلاديمير بوتين المفاجئ،  عن بدء الانسحاب الروسي من سوريا، بالإعلان الاستعراضي الذي أدلى به الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن عقب الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، والذي أعلن فيه آنذاك، انتهاء العمليات العسكرية الرئيسية في العراق، ليظل بعده القتال مستمرا وبوتائر متصاعدة لأكثر من عشر سنوات، قبل أن يتم سحب القوات الأمريكية تحت ضغوط المقاومة العراقية، وبفعل ضرباتها الموجعة.

الرئيس بوتين في إعلانه عن (بدء) الانسحاب من سوريا استخدم صيغة غامضة وهلامية، مثل الصيغة التي استخدمها بوش الابن قبل عشر سنوات، فهو لم يحدد المدى الزمني الذي سيأخذه الانسحاب ولا نوعه أو حدوده.

وإذا صحت هذه  المقارنة،  فإن بدء الانسحاب الروسي من سوريا، يمكن أن يستغرق عشر سنوات كما في حالة الانسحاب الأمريكي من العراق، أو حتى يمكن أن يكون غطاء لصيغة أخرى تضمن تواجدا دائما حتى وإن لم يكن ظاهرا.

لكن بافتراض أن الانسحاب حقيقي، فإن  المعلومات المتوفرة بهذا الشأن، لا تجعل من هذا الانسحاب سوى حركة تكتيكية هدفها تحقيق مكاسب سياسية ، دون أن يطرأ في الواقع، أي تغيير يذكر على جوهر المهمة العسكرية الروسية في سوريا.

فالانسحاب لا يتجاوز  20% من  إجمالي القوات الروسية المتواجدة على الأراضي السورية، وهذه النسبة  لن تؤثر جذريا في الميزان العسكري في مناطق القتال وجبهاته.  وإذا أخذنا بعين الاعتبار الهدنة الهشة القائمة بين الأطراف المتنازعة، فإن الانسحاب الجزئي لا يمنع  موسكو من الاحتفاظ بالإنجازات العسكرية التي حققتها قواتها في الميدان.

 وحتى لو حاولت المعارضة السورية استغلال هذا الانسحاب لتحسين وضعها الميداني، فإن الروس لديهم الفرصة لتحميل المعارضة مسؤولية انتهاك الهدنة، و قد يعطيها ذلك مبررا للرد دون أن تخشى انتقادات كتلك التي واجهتها في العمليات السابقة.

أما الأمر الآخر الذي تسعى له موسكو فهو إجهاض مساعي السعودية وبعض الدول الإقليمية الأخرى للتدخل بريا في سوريا،  لمساعدة قوات المعارضة، وذلك من خلال الإيحاء بأن الوجود الروسي بات وجودا مؤقتا أو محدودا، وأنه لم تعد هناك حاجة لأي تدخل بري، لأي قوى جديدة، وأن مثل هذا التدخل فقد مبرراته وأسبابه.

وبموازاة ذلك، أو كنتيجة له،  فإن الإعلان الروسي المفاجيء يربك المعارضة المعتدلة، التي استفادت من الضربات الجوية التي وجهتها الطائرات الروسية لبعض القوى المتطرفة التي حاولت اختطاف الثورة السورية، والاستئثار بها أو تشويه أهدافها. ومع أن المعارضة المعتدلة اشتكت كثيرا من الدور الروسي، سواء بسبب انحيازه الفج للنظام، أو بسبب بعض الضربات الجوية التي استهدفت مواقعها ، فإن الإعلان الروسي بدء سحب قواته ستكون له انعكاسات عسكرية لم تحسب المعارضة المعتدلة حسابها؛ إذ باتت وحيدة في مواجهة القوى الإرهابية المتشددة، وهي مواجهة قد تستنزف ما تبقى لديها من قوة، وقد تقوض فرصتها لأخذ زمام المبادرة لمد سيطرتها على أماكن جديدة من تلك التي كان المتشددون يتخلون عنها بفعل الضربات الجوية.

والواضح أن الأهداف السياسية من الإعلان الروسي ، لم تكن قاصرة على الخصوم بل على الحلفاء أيضا. فموسكو التي قدمت الدعم للأسد، هي نفسها التي وبخته على تصريحاته بشأن عزمه إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية، خارج إطار التفاهمات التي يمكن أن تنتج عن مؤتمر جنيف الرابع.

وبهذا المعنى، فإن الإعلان عن بدء الانسحاب يمكن أن يكون مظهرا عقابيا آخر للأسد ونظامه، أو تلويحا بمثل هذا العقاب في حال تجاوز عن الأولويات الروسية وعلى رؤيتها للحل.

وحتى بالنسبة لإيران التي تتورط في المستنقع السوري إلى حد كبير فإن الانسحاب الروسي، سيضعها أمام خيارين أحلاهما مر: فهي إما أن تحاول إقناع روسيا بتأجيل الانسحاب أو إبطائه، كجزء من الإبقاء على علاقة التحالف التي نشأت بينهما بشأن الملف السوري، وفي هذه الحاله فإنها لا بد أن تدفع ثمنا سياسيا، لتضمن نجاح مثل تلك المحاولة، كتقديم تنازلات سياسية عند الإقتضاء، لا في سوريا فحسب بل في ملفات إقليمية قد تكون موسكو طرفا فيها.

أما الخيار الثاني فهو أن تعمل إيران على ملء الفراغ الذي ينتج عن الانسحاب الروسي وهو أمر مكلف، وقد لا يكون متاحا في ظل الظروف الاقتصادية والسياسية التي تعيشها إيران، وفي ظل تزايد أعداد الأصوات التي تعارض التورط الإيراني في سوريا.

وبعيدا عن حسابات الأطراف المحلية أو القوى الإقليمية فإن الأمر الأكثر وضوحا في الإرباك، أو في الصدى الذي أحدثته المفاجأة الروسية الجديدة، هو أن موسكو باتت اللاعب الأكبر في الأزمة السورية،  لا في الميدان العسكري فقط، بل في الميدان السياسي أيضا، وهو ما يعني أن الحلول إن دخلت حيز التداول، لا بد أن تكون على مقاس الدب الروسي، أو على هواه.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com