الأجيال المقبلة بين التصحيح والتسطيح
الأجيال المقبلة بين التصحيح والتسطيحالأجيال المقبلة بين التصحيح والتسطيح

الأجيال المقبلة بين التصحيح والتسطيح

تاج الدين عبد الحق

ربما يكون تراجع أسعار النفط، هو الضارة النافعة للاقتصاد السعودي بشكل خاص، والاقتصادات الخليجية بشكل عام.

فعلى خلاف ما كان يجري، فإن التراجع هذه المرة ليس حالة عارضة، أو مؤقتة كما في المرات السابقة، التي تدنت فيها أسعار النفط، إلى مستويات خطيرة.

فالانخفاض هذه المرة يتم تحت وقع عوامل ومستجدات تشكل في مجموعها مناخاً جديداً لم يعهده سوق النفط من قبل، ولايبدو أن الدول المنتجة قادرة على التكيف معه، دون اتخاذ سياسات جديدة على مستوى إدارة الموارد، أو على مستوى الإنفاق.

فقد كانت الدول المنتجة عند كل منعطف من المنعطفات الخطيرة التي واجهتها الأسواق العالمية، تمتص صدمات أي تراجع، بالتحرك خارجياً، لتصحيح المسار في سوق النفط، من خلال الاتفاق فيما بينها على حصص للإنتاج، أو معادلات للتسعير.

لكن يبدو أن هذا الدور آخذ بالأفول، إن لم يكن قد أفل فعلا، فمنظمة الدول المصدرة للنفط (الأوبك)، لم يعد بمقدورها التحكم بالأسعار وكميات الإنتاج في السوق العالمية، لأن الإنتاج النفطي خارج المنظمة أصبح هو، لا الكميات التي تنتجها الدول الأعضاء في المنظمة، بيضة القبان، التي تتحكم بالسوق، وإما لأن البدائل التي كانت تُلوح بها الدول المستهلكة لكبح جماح المغالاة في رفع الأسعار، بدأت تتحول إلى واقع فعلي تعكسه الحصص المتنامية التي بدأت تأخذها الطاقة المتجددة أو النووية من السوق، والتي تتزايد أهميتها، لا بسبب الوفر المتحقق منها على المدى الطويل فقط، بل بسبب الضغوطات البيئية التي يتعرض لها قطاع الهيدروكربون.

إلى ذلك، فإن الخلافات السياسية باتت تعصف بالمنظمة البترولية نفسها، بحيث لم يعد من السهولة الاتفاق بين الدول الأعضاء، على موقف موحد تجاة ما يمر به السوق من تقلبات وأزمات.

بل إن هذه الخلافات جعلت من المنظمة أداة لتصفية حسابات سياسية، أكثر من كونها آلية عمل للدفاع عن الأسعار أو كميات الإنتاج .

فوق ذلك كله فإن الدور المتنامي الذي بدأت تلعبه الدول الخليجية على المسرحين الإقليمي والدولي، وتزايد الاعتماد على الترتيبات الأمنية الذاتية، بعد تراجع الاعتماد على القوى الخارجية لضمان أمن المنطقة ومواجهة التحديات التي تتعرض لها، يرتب على هذه الدول أعباء مالية إضافية لا بد من أن يحسب حساب فاتورتها في أي توزيع لموارد النفط.

وقد بدأت إرهاصات ذلك واضحة في الكلفة العالية للتصدي للتحديات الإقليمية في كل من العراق واليمن وسوريا وللمحاولات المحمومة لزعزعة الاستقرار في البحرين ودول الخليج الأخرى.

هذا المناخ الدولي الذي تعيشه صناعة النفط اليوم يساعد على ترتيب أوضاع الدول المنتجة بشكل مختلف، وبعنوان جديد هو انتهاء عصر الوفرة القائم على الدعم الحكومي، لا في مجالات التعليم والصحة والبنية الأساسية فقط، بل في مجالات الإنفاق الاستهلاكي والمصروفات المعيشية العادية، وفي مجال التشغيل والتوظيف أيضا.

فذلك النمط من الدعم، لا يؤدي فقط، إلى إهدار الموارد المحدودة وتوظيفها في دعم أسعار غير حقيقية للخدمات والسلع، بل إنه يساهم أيضا في خلق أنماط استهلاك غير رشيدة لايمكن الاستمرار فيها فترة طويلة.

إلى ذلك فإن هذا النمط الاقتصادي فيه اعتداء على حقوق الأجيال القادمة، التي لن يكون في مقدورها أن تنعم بما أفاء الله به على الأجيال الحالية.

وتخصيص جزء من الموارد المالية كاحتياطيات للأجيال القادمة ليس هو الشكل الذي يمكن أن نحافظ به على حقوق تلك الأجيال ونحمي به، حصتهم في موارد النفط. فمثل هذه الترتيبات تحمل في ثناياها، المفاهيم الاقتصادية الحالية القائمة على الدعم الحكومي، وعلى الالتزام بتوفير فرص العمل، في أجهزة ووزارات ومؤسسات حكومية أو شبه حكومية مثقلة أصلا بالبطالة المقنعة.

إن الصدمة النفطية الحالية التي تعيشها الدول المنتجة، يمكن أن تكون بداية لإصلاح اقتصادي عميق، دون الخشية من كلفة اجتماعية باهظة، فانخفاض أسعار النفط يتيح رفع الدعم التدريجي، عن سلسلة من السلع والخدمات، دون أن يتسبب ذلك في ارتفاع كبير في كلف المعيشة، كما أن هذه الصدمة يمكن أن تلغي احتكار الحكومات غير المبرر لملكية بعض المؤسسات الإنتاجية والخدمية، ويترك فرصة واسعة أمام مبادرات القطاع الخاص التي توفر إدارة أكثر كفاءة لتلك المؤسسات وقدرة أفضل للتطور والاستدامة.

لقد عملت دول الخليج خلال مرحلة الوفرة المالية على إنشاء ما يعرف بصناديق الأجيال القادمة، لكن هذه الصناديق تظل نوعاً من التسطيح للتحديات والمشكلات التي قد تواجهها تلك الأجيال، ولا يمكن أن تكون بديلا كافياً، عن التصحيح الاقتصادي الذي يشكل وحده الضمان لبناء اقتصادات قوية قادرة على مواجهة التحديات الاقتصادية والسياسية التي يتزايد مداها بوتيرة عالية، ومستويات غير مسبوقة.

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com