أيام في تركيا (2).. أنقرة تعزز هويتها لتستعيد نفوذها
أيام في تركيا (2).. أنقرة تعزز هويتها لتستعيد نفوذهاأيام في تركيا (2).. أنقرة تعزز هويتها لتستعيد نفوذها

أيام في تركيا (2).. أنقرة تعزز هويتها لتستعيد نفوذها

تاج الدين عبد الحق

يعتقد "الأردوغانيون" أن المنطقة، تعيش لحظة تاريخية شبيهة بتلك التي عاشتها تركيا في بداية القرن الماضي، مع تبادل في الأدوار، واختلاف بالمسميات.

في القرن الماضي كانت الدولة العثمانية هي الرجل المريض، والضحية التي تنهشها الضواري الأوروبية، وتعمل فيها تشريطا وتمزيقا، وتعيد تركيبها، وترتيبها على مقاسها، ووفق أولوياتها ومطامعها.

 وتحت معاول التيارات القومية واليسارية الوافدة من أوروبا أو المتأثرة بها، لم تفقد الإمبراطورية العثمانية، الجغرافيا فحسب، بل التاريخ أيضا. فقبل تبلور ملامح التمزيق، وقبل الإنتهاء من خرائط التقسيم كانت   الحاضرة العثمانية هي نفسها محطة من المحطات التي طالتها معاول التغيير.

فقد تبنت تركيا، نموذج الحداثة الغربي والنهج العلماني، وبدا الحال في تلك المرحلة، أشبه بطلاق بائن،  بين المشروع الحداثي القسري الذي قاده كمال اتاتورك، وبين التاريخ والإرث الإسلامي. واستتبع ذلك إستدارة تركية من العمق الجغرافي الطبيعي لها، لتنأى بنفسها عن الشرق القريب، وترنو بطموحها إلى  الغرب البعيد.

وطوال العقود الماضية، ظلت تركيا تحاول تكريس صورتها القومية، وتجعل من رغبتها في الانضمام للاتحاد الأوروبي خيارها  السياسي الذي لا يعادله خيار، وظلت الحكومات التركية المتعاقبة تراهن على العلاقات بأوروبا والتكامل معها، وتعتبر ذلك  طوق نجاة من أزماتها السياسية والاقتصادية، قبل أن تدرك أن الخيار الأوروبي، خيار مستحيل، أو مرفوض، لتعيش تركيا بعد ذلك حالة من الانفصام والآزدواجية بين تاريخ طويل تتبرأ منه، وواقع ثقافي وآيديولوجي لم تستطع تجاوزه .

ولم يكن استلام حزب العدالة والتنمية سدة الحكم قبل ما يقرب من خمسة عشر عاما، هو العامل الوحيد في تغير توجهات السياسة التركية، وتحولها من النظر لأوروبا كأولوية، إلى الاهتمام بالمحيط الإسلامي المجاور كبديل.

فقد رافق صعود نجم التيار الإسلامي التركي، وبالتحديد وصول حزب العدالة والتنمية، إلى السلطة،  غروب المد القومي العربي، وظهور ما عرف بالصحوة الإسلامية التي أصبحت عنوانا للمرحلة السياسية في المنطقة.

هذا التطور لفت انتباه أردوغان من جديد إلى العمق الجغرافي والتاريخي المنسي لتركيا. ووجد في الإسلام السياسي الصاعد في المنطقة العربية رأس حربة يثأر من خلاله الإسلام التركي الذي يمثله أردوغان من القوى والأنظمة التي أخرجت تركيا من المنطقة العربية باسم الآيديولوجية القومية .

 لم تكن ثورات ما يسمى بالربيع العربي قد اندلعت بعد عندما بدأ ت تركيا خطواتها الأولى،  لتقوية دورها القيادي في المنطقة. لكن أنقرة أعطت قوة دفع معنوية كبيرة لتيارات الإسلام السياسي في العالم العربي، من خلال تقديم نفسها كنموذج إسلامي حداثي ناجح.

تركيا التي كان يطربها التغزل بنجاحها، عملت على تعزيز حضورها في محيطها الإقليمي باتجاهين، الانفتاح على الأنظمة العربية ورفع شعار "تصفير الأزمات" مع الدول المجاورة، وتقديم نموذجها الإسلامي، الذي لم يتنازل عن العلمانية، بإعتباره وسيلة تساعد الأنظمة العربية على تدجين التيارات الإسلامية السياسية لديها، والقبول بها شريكا مستأنسا ومقبولا .

وفي الاتجاه الثاني انفتحت على القوى السياسية الإسلامية العربية، وتبنت بشكل استعراضي أحيانا قضايا دغدغت فيها مشاعر وطنية ودينية، وقدمت الدعم المادي والمعنوي لقوى حزبية وشخصيات إسلامية، وتعاملت مع تلك القوى والشخصيات كبديل محتمل عن الأنظمة القائمة.

 وواكب هذا الانفتاح، حضور تركي متنام في الحياة الثقافية والإعلامية العربية، وغدت تركيا ساحة مفتوحة وبلا قيود لكل العرب يجدون فيها ملاذ اللجوء أو الترفيه والسياحة، فضلا عن الشراكة الاقتصادية والاستثمارات المالية.

فشل ثورات الربيع العربي، خلط الأوراق، وأفشل الإستراتيجية التركية لاستعادة نفوذها الإقليمي، فوجدت نفسها مع تحول قوى المعارضة الإسلامية التي كانت تدعمها من قوى سياسية وحزبية ، إلى قوى معارضة متطرفة ومسلحة، أمام خيارين إما التخلي عن هذه القوى وتركها لمصيرها، مع ما قد يجره ذلك من سلبيات على مستقبل علاقات تركيا بمحيطها الإسلامي. أو الدخول في المواجهة إلى آخر الشوط  والانحياز للقوى الحزبية حتى لو كانت متطرفة ومرفوضة، مع ما يعنيه ذلك من توتر في علاقاتها مع معظم الأنظمة العربية التي وجدت في الإسلام السياسي تهديدا لوجودها واستقرارها.

ويبدو أن تركيا حسمت أمرها سريعا ، فراهنت على الخيار الثاني لشعورها بأن معظم الدول العربية تعيش  حالة ضعف، كتلك التي عاشتها الدولة العثمانية في بداية القرن الماضي والتي مهدت لرسم خرائط جديدة للمنطقة زالت فيها حدود، ليقام على أنقاضها سدود.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com