ست الحبايبست الحبايب

ست الحبايب

أجيال وراء أجيال، لم يجد العرب من المحيط إلى الخليج، كلاما أبلغ، ولا لحنا أصفى، ولا صوتا أدفى من أغنية "ست الحبايب"، التي تحولت منذ إطلاقها قبل أكثر من 50 عاما،  إلى ثيمة تجسد مشاعر الناس، وتعبر عن مدى إمتنانهم، وحبهم  لأمهاتهم.

عبرت الأغنية الزمان، وتجاوزت المكان. أخترقت حواجز اللهجات، وصورت  بكلمات بسيطة،  من جنس ما يتبادله الناس في حياتهم اليومية، معاناة الأم وصبرها، وجسدت بلحن شجي من  جنس الألحان التي تشحنهم بالهمة والعزيمة، عطاءها الموصول بدون حساب، وحنانها المستمر بلا حدود   .

بالرغم من الشعر الكثير الذي قيل في الأم، والألحان العديدة التي احتفت بها، ظلت  "ست الحبايب" العنوان الأبرز، والأقرب للاحتفال بعيد الأم. بدون ترديده لا يكتمل العيد، وبدون استعادته لا تكتمل المناسبة.

سر "ست الحبايب" كم الصدق والتلقائية في الكلمة، وكم الشجن في اللحن. عندما كتبها حسين السيد كتبها لأمه،  أولا ولم يكتبها للمناسبة. قيل إنه جاءها  ذات عيد زائرا، ونسي أن يحمل لها هدية العيد، فجلس على عتبة الباب وكتب تلك الكلمات الرقيقية التي جاءت أقرب لحوار يعبر فيه عن الامتنان لعطائها، ويستذكر من خلاله أفضالها  .

وقيل إن حسين السيد، حمل الكلمات بنفس الليلة  إلى الموسيقار محمد عبد الوهاب الذي عكف على تلحينها، وغناها بنفسه قبل أن تغنيها في نفس اليوم المطربة الراحلة  فائزة أحمد ولتصبح منذ ذلك االتاريخ، أغنية الأم بإمتياز لا في مصر فقط ، بل على إمتداد الوطن العربي كله .

أصبحت الأغنية على بساطتها عنصرا جامعا، فتجاوزت في تأثيرها، كل الشعارات التي ُفرض علينا ترديدها كجزء من التربية الوطنية والقومية. ذهبت تلك الشعارات وإندثرت، وبقيت الأغنية وازدهرت وتجددت.

ذكرت ذلك أمام أحد ممن يحرمون ويحللون على هواهم، فانبرى قائلا بلهجة واثقة قاطعة: أولا هذا العيد بدعة،  وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة بالنار، وبالتالي لا يجوز الاحتفال بعيد للأم، وفي ديننا لا عيد إلا عيدين عيد الفطر وعيد الأضحى .

ثانيا الغناء والموسيقى حرام وبالتالي فإن ترديد هذه الأغنية أو الإستماع إليها  بغض النظر عما تحمله من معان سامية وغايات  نبيلة لا يجوز شرعا. وفيما بدا أنه محاولة لاحتواء استنكاري لهذا الرأي الغريب الخارج عن المنطق والعقل، أضاف قائلا: إن الاحتفال بالأم يكون بطاعتها والسهر على راحتها لا الغناء لها !! .

ومع أن منطق التحليل والتحريم هذا، لم يترك موضعا للنقاش، ولا مجالا للجدال، إلا أنه أكد أن هذا  الغثاء الذي يجعل الفرح ذنبا، والعقل إثما، لا يزال يعيش معنا،  ويتكاثر بيننا، لا كرأي فقط،  بل كشكل من أشكال الفعل أيضا  .

فبهذا المنطق، وبتأثير هذا التفسير، تجرأ الإرهاب على آثار العراق وسوريا ، وهدم وفجر  تراثا إنسانيا عظيما وإرثا وطنيا  خالدا، بحجة أنها من الأصنام والتماثيل، التي أمر الدين أن تهدم ، وتناسى من قام بهذا العمل الآثم، أن الدين لم يبدأ عندهم، وأن حضارات إسلامية أكثر علما، ومسلمين اشد ورعا مروا على هذه الأوطان، وصانوا  ما يعتبره جهلة وسفهاء هذه الأيام  من  الأوثان.

يذكر المخرج السوري العالمي مصطفى العقاد رحمه الله، أنه عندما أراد إنتاج وإخراج فيلم محمد رسول الله، من أجل التعريف بحضارة الاسلام وسماحة الدين الاسلامي، استفتى مسبقا، أحد رجالات الدين البارزين في العالم العربي، لضمان ألا يتعرض الفيلم للمنع والحظر، وألا يتضمن قبل ذلك، ما قد يسيء إلى الدين وتعاليمه.

وكان السؤال الأول والأخير الذي طرحه رجل الدين ذاك على العقاد، هل هناك موسيقى مصاحبة في الفيلم؟ ولما رد العقاد رحمه الله بالايجاب قال من استفتاه: إذن فالفيلم حرام حرام حرام، وكررها،  ثلاثا قاطعا برأيه  قول كل خطيب. عندها لم يجد المخرج العالمي ما يناقش فيه وخرج دون أن يعلم أن الجهل الذي صنع تلك الفتيا، هو نفسه مهد الحقد، ومنبت العنف، الذي قتله في العاصمة الأردنية عمان في الحادث الإرهابي المشهود، الذي وقع عام 2005 ،  واستهدف عددا من الفنادق وراح ضحيته العشرات من المدنين الابرياء .

من يفتي  اليوم، بأن الاحتفال بعيد الأم، وترديد أغنية ست الحبايب، "حرام حرام  حرام "، قد تكون فتواه مستصغر شرر يشعل نارا من الصعب إطفاءها،  والسيطرة عليها، وقد تكون أشد هولا من كل ما شهدناه حتى الآن.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com