أفغانستان تريد حلًّا لا انتصارًا
أفغانستان تريد حلًّا لا انتصارًاأفغانستان تريد حلًّا لا انتصارًا

أفغانستان تريد حلًّا لا انتصارًا

تاج الدين عبد الحق

يبدو أن الأصوات التي تحتفي بما تسميه انتصار حركة طالبان في أفغانستان، لم تتعظ من تجارب سابقة، كما يبدو أنها تتجاهل تاريخ حركات الإسلام السياسي التي حققت نتائج ميدانية سريعة حملتها للسلطة، أو مكنتها من السيطرة التي جعلتها تقدم نموذج حكم جر الويلات والكوارث، قبل أن يتوارى ذلك التاريخ إلى الصفحات المظلمة من سجل مسيرة العالم الإسلامي.

والغريب أن من يحتفون بـ"الانتصار الطالباني" يقدمونه على أنه نموذج يحتذى، ويؤكدون من خلاله أنه دليل على سلامة نهج القوى السياسية، والميليشيات المسلحة التي تتخذ من الإسلام مظلة ساترة لمشروعها السياسي الظلامي، والذي يعتبرونه أساسًا للبعث الإسلامي، وينعتونه بأنه نضال ضد قوى الاستكبار العالمي.

لكن استنكارنا للأصوات المحتفية بإنجازات طالبان، لا يعني أننا نتجاهل حقيقة أن ما حدث في أفغانستان خلال الأسابيع القليلة الماضية، هو فشل كامل الأركان، وهزيمة واضحة للمشروع الأمريكي الذي حاول على مدى سنوات ترويض القوى الأفغانية، وإنشاء نظام سياسي موال وحليف، قادر على بناء شراكة سياسية على أساس نظام تعددي، يجمع القوى الأفغانية على قواسم وطنية مشتركة، تخدم المصالح السياسية لواشنطن.

إلا أن الفشل الأمريكي هو فشل على رهان حاولت من خلاله واشنطن بناء قاعدة ثابتة، وإنشاء خندق متقدم لها، في مواجهة القوى الإقليمية والدولية المحيطة بأفغانستان، والتي تعمل على السيطرة على وسط آسيا وما جاورها.

في المقابل فإن "انتصار طالبان" لا يمكن اعتباره انتصارا وطنيا أفغانيا، ولا يجوز الرهان عليه كمقدمة لانتصار ما يراه البعض مشروعًا إسلاميًّا، ومقدمة تعيد للقوى الإسلامية المتطرفة وهجها الذي فقدته، بعد الفشل السياسي الذي منيت به، وبعد التهافت الفكري الذي انحدرت إليه.

فالصراع في أفغانسان تحوّل فور خروج الولايات المتحدة من الميدان، بين قوى متطرفة منبوذة من الجوار الإقليمي، والمجتمع الدولي، وبين قوى فاسدة حاولت الاستفادة من الوجود الأمريكي، لتكوين نسيج فطري هش يقتات على الهبات الأمريكية، حتى إذا وضِع أمام أول اختبار عملي، وجدي، تهاوى كبيت العنكبوت، ولاذت مكوناته بالفرار حفاظًا على ما كسبته من غنائم، وما قد تحصل عليه من حصانة وحماية.

التوصيف الذي تستعجل بعض القوى السياسية العربية والإسلامية في إطلاقه على انتصار طالبان، وتتحمس في تبنيه، والدفاع عنه، لا يمكننا اعتباره أساسًا لتحليل ناضج لما قد يترتب على سيطرة الحركة على أفغانستان. فطالبان لا تزال بعيدة تمامًا عن السيطرة الفعلية على كامل الأقاليم الأفغانية، حتى لو سيطرت على عواصم العديد من تلك الأقاليم.

الصراع الأفغاني في جميع مراحله التاريخية لم يكن ميدانه المدن بل الجبال والمعاقل المحصنة التي خاضت فيها وانطلقت منها الفصائل الأفغانية لمقارعة المحتل الأجنبي أو لمهاجمة خصومها من القوى الطائفية والسياسية المنافسة، ومن الواضح أن تلك الجبال والمواقع المحصنة ستكون بعيدة عن سيطرة الحركة التي ستضطر إلى إنزال عناصرها للمدن التي استولت عليها وجعلت منها مقار عسكرية لها.

وحتى لو نجت حركة طالبان من نذر الحرب الأهلية التي تظلل سماء أفغانستان حاليًّا، وهو احتمال ضئيل على كل حال، فإنها أمام مواجهة مؤكدة مع الدول المجاورة التي تتخوف أن تنتقل إليها عدوى الصراعات الأفغانية؛ إما بسبب تماثل التكوين الاجتماعي والطائفي مع أفغانستان، وإما بسبب ما سيلحق بتلك الدول من آثار اجتماعية واقتصادية وأمنية بسبب اللجوء المليوني للأفغانيين.

وحتى لو قدمت الحركة تطمينات لمجاوريها فإن استعادة ثقة الآخرين بها ليست سهلة، وتحتاج إلى شواهد عملية قبل أن تطمئن الدول المجاورة إلى أن أمنها لن يخترق أو لن تهدده جماعات قد تنشئ قواعد انطلاق لها في أفغانستان.

على صعيد آخر فإننا لا نعرف إلى الآن المدى الذي استفادت منه حركة طالبان من إخفاقاتها خلال تجربة حكمها السابقة لأفغانستان في تسعينيات القرن الماضي، إلا أن المؤكد أنها ستجد صعوبة حقيقية في التبرؤ من خطابها الأيديولوجي، الذي ورطها في تحالفات مع قوى إسلامية متطرفة كالقاعدة، وحولها إلى ملاذ لتلك القوى. وإذا لم تستطع حركة طالبان الفصل بين مصالحها الوطنية والتزاماتها الأيديولوجية، فإنها ستجد نفسها في ورطة جديدة مع المجتمع الدولي، وستجد نفسها أمام عزلة اقتصادية وسياسية مكلفة، تفجر الأزمات الكثيرة المؤجلة التي لا تزال تنتظر حلًّا.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com