الرحمة لسايكس والغفران لبيكو
الرحمة لسايكس والغفران لبيكوالرحمة لسايكس والغفران لبيكو

الرحمة لسايكس والغفران لبيكو

قد يحتاج تعبير "اللبينة" إلى وقت أطول حتى يكون استعماله مألوفا ومستساغا، كحال تعبير الصوملة، أو اللبننة، الذي درج على الألسن، ودخل القاموس السياسي، ليشيع استعماله كوصف مختصر لكل أشكال التقسيم القسري، أو كتعبير عن حالات الفشل التي تصاب بها الدول نتيجة الحروب والنزاعات الأهلية.

ومن هذا الباب فإن ليبيا اليوم، ليست بعيدة عن الحالة اللبنانية أو الصومالية، وقد يختصر البعض المعاناة من صعوبة اللفظ، فيستعير تعبير اللبننة أو الصوملة لوصف الحالة الليبية ليقال بعد ذلك صوملة ليبيا، أو لبننتها، كما في حالات عربية مماثلة أخرى استعصت فيها اللغة، فقيل لبننة العراق وصوملة اليمن وصوملة أو لبننة سوريا.

ويبدو أننا كعرب ماضون على هذا الدرب، فإذا صدقت التقارير المتواترة عن خريطة جديدة للعالم العربي، فإننا أمام رحلة طويلة مع هذه التعابير التي نجحنا في ابتكارها، وتوظيفها، لتوصيف حالات سياسية، تتشكل ملامحها على أرض الواقع حاليا، أو تلوح مخاطرها في الأفق مستقبلا.

ويخطئ من يظن أنه بعيد عن خطر التقسيم، ومشرط التفتيت. ومن تخونه ذاكرته عليه أن يستعيد ما كنا عليه في بداية النصف الثاني، من القرن الماضي، حين كان الحديث عن الدولة القطرية، نوعا من الكفر، والدفاع عنها شكلا من أشكال العمالة للاستعمار.

وكان الناس ينظرون للدولة القطرية على أنها مرحلة انتقالية، لمرحلة تتحقق فيها الوحدة الشاملة، من المحيط إلى الخليج.

هكذا كانت أحلامنا، وبسبب حلم الوحدة ذاك، صودرت أحلام الحرية. ومقومات الحياة الكريمة، فكانت الوحدة القومية، كشعار في كثير من الدول العربية أسبق على ما عداها من أولويات، وشعارات.

كل هذا يتغير اليوم. الدولة القطرية لم تعد مسبة، والمحافظة عليها، وتكريسها والدفاع عن حدودها، لم يعد يثير استهجان، أو استنكار حتى أولئك الذين كان شعار الوحدة القومية، عنوانا لوجودهم، وسببا لتسلطهم، ومبررا لمصادرتهم الحريات والكرامات، قبل أن يصادروا ويهدروا الموارد والقدرات.

المفارقة أن الدولة القطرية ، نشأت وترعرعت وتكرست في ظل مناخ سيطرت عليه فكرة القومية العربية، بل إن دولا نبتت من منبت فكري وحزبي واحد ، لم تستطع تجاوز الخلافات والأطماع الشخصية بين قيادتيها، لتؤكد أن تقسيم العالم العربي لم يكن فقط، نتيجة المؤامرة الدولية، التي تحمل وزرها وزيرا ذلك الزمان البريطاني "سايكس" والفرنسي "بيكو" فقط، بل إنها كانت كذلك تعبيراً عن حالة مراهقة سياسية، وأطماع شخصية، مكنت تلك المؤامرة من أن تتحول إلى واقع نترحم الآن، على من رسم خرائطه، ونستغفر لمن وضع أسسه، ونجاهد بكل طاقتنا، للمحافظة عليه، وحمايته مما هو أعظم.

المفارقة أيضا أن التقسيم الذي يتهدد العالم العربي الآن، هو تهديد بشعارات ورايات إسلامية كان من المفترض أن تكون أوسع ظلا، وأكثر شمولا من الراية القومية.

فبنفس روح المراهقة الحزبية والأطماع الشخصية التي ميزت فترة ما سمي بالمد القومي، وتحت شعارات "التكفير ومحاربة البدع والتصدي للأنظمة الظالمة المرتدة"، تتم في ظل جماعات التكفير والإرهاب ومن يرعاهم ويمولهم، ويغذي آلتهم الجهنمية، عمليات فرز واسعة، وتقسيم لا ينتهي.

فمن تقسيم على أساس الدين، إلى تقسيم على أساس المذهب، والطائفة، إلى تقسيم على أساس الاختلاف، في الأسلوب والاجتهاد حتى بين أبناء المذهب الواحد والطائفة الواحدة.

وهذا النوع من الفرز لا يقبل الحلول الوسط ولا الصيغ التوفيقية، إذ أنه يقوم ابتداء على نفي الآخر، واستئصاله كوجود مادي قبل الوجود الفكري.

وبدلا من أن يكون الإسلام إطارا جامعا، يصبح في ظل التباين الشديد بين الفرق والقوى التي تتحرك باسمه، مصدرا للتجزئة والتفتيت الذي لا يقف عند حد ولا يضبطه أي ضابط. ولنا فيما يحدث في سوريا والعراق وما يحدث في ليبيا الآن أمثلة حية على ذلك.

وكما في فترة المد القومي الذي أنتج الدولة القطرية، هناك من يرى في السيناريو الجديد ترجمة لمؤامرة دولية، ليس لنا فيها من دور إلى التنفيذ. فالأنباء والتقارير تتواتر على أن المليشيات الإرهابية المسلحة التي تستبيح أرضنا ودمنا هي من صنع أعدائنا، وترجمة لمخططاتهم وكأننا أمة مسلوبة الإرادة، لا نملك سوى الاستسلام لقدرنا الذي تتحكم فيه مجموعة من الأشرار، متغاضين عن حقيقة أنهم حتى لو كانوا أدوات في يد أعدائنا، فإنهم في الأصل وفي المآل، من صنعنا نحن، وماركة مسجلة باسمنا، لا نستطيع التبرؤ منها، أو إنكارها، إلا إذا أغلقنا كل مراكز تصنيعها، وترويجها، بالضبة والمفتاح.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com