الجحش والبرنس
الجحش والبرنسالجحش والبرنس

الجحش والبرنس

يغالي المصريون في حبهم ، كما يغالون في كرههم . إذا احبوا زعيما سلموه القياد، ووضعوه في مصاف الملائكة. وإذا كرهوا آخر سودوا حياته، قبل أن يسودوا صفحات تاريخه .

أحبوا عبد الناصر، للدرجة التي غفروا له خطيئة الهزيمة بكل ما فيها من مرارات لا زلنا نتذوقها إلى الآن. لكنهم، ما إن غاب حتى تسابقوا في نبش كل ما حمله إلى قبره من تاريخ . لم يتركوا شيئا إلا ونكلوا به ، من مجانية التعليم التي قيل إنها تسببت في إنحدار مستوياته ، ومرورا بالاصلاح الزراعي والتنمية الصناعية ، التي قيل إنها سبب التراجع في الانتاج والترهل في الادارة ، وإنتهاء بالسد العالي الذي شكل وقتها طوق نجاة من مجاعة كانت محققة ، ليقال بعد ذلك أنه أضر بالتربة وقلل من خصوبة الدلتا التي تشكل خزان الغذاء لمصر.

أعطوا السادات تفويضا على بياض وأيدوا مبادرته السلمية وخطواته الانفتاحية ، لكنهم قتلوه وهو يحتفل بذكرى نصر أعاد لمصر أملها في المستقبل ، ووضعها من جديد على سكة التنمية .

استسلموا للقدر الذي جاء بحسني مبارك، واختصروا نصر أكتوبر بكل ما فيه من عبقرية التخطيط ودقة التنفيذ ، بضربته الجوية التي اكتشفنا بعد خروجه من القصر أنها ضربة مشكوك فيها ، وفي قيمتها بين عوامل النصرالكثيرة التي حققت لجيش مصر، التفوق والغلبة في عام 1973 .

جاء الإخوان وجاءوا بالدكتور محمد مرسي رئيسا منتخبا ، ففتحت له المنابر والشاشات ، لكنهم عزلوه قبل أن يتمكن من إتمام مشروع الأخونة الذي كلفته به الجماعة ، ليبدأ كشف المستور لا فيما يتعلق بممارسات الجماعة السياسية فقط، بل وفي توجهاتها الفكرية ومخططاتها الاستراتيجية وتمويلاتها الخارجية وتنظيمها الدولي .

اليوم يلتف المصريون حول المشير عبد الفتاح السيسي كرمز لأمل التغيير ، حتى قبل أن يعلن رسميا نيته الترشح للرئاسة وقبل أن تتبلور ملامح برنامجه الانتخابي في حال ترشحه . امتلأت الشوارع بصوره ، وتسابقت الشاشات على متابعته كما لو كان رئيسا لا وزيرا. أغرقوه بتوقعات تنوء الجبال بحملها ، وباتوا ينتظرون حلولا لأزمات مزمنة تحتاج معالجتها إلى ما هو أكثر من نوايا طيبة ، وإلى ما هو أبعد من كاريزما قيادية .

حال مصر في السياسة ، هو حالها في الشارع ، تعطيك لقب الباشوية لقاء أي خدمة ، وقد تنتهك آدميتك بسبب أي هفوة . لا حل وسط في بلد لا يمكن أن يستقر إلا بالاعتدال والوسطية .

في زيارتي الأخيرة للقاهرة ، استضافني زملاء في مطعم تردد اسمه على أكثر من لسان منذ وصولي للمطار ، وقال بعضهم محذرا إن زيارتي للقاهرة تكون ناقصة إن لم آكل في مطعم البرنس . ومطعم البرنس لمن لا يعرف كان في الأصل كشك يبيع السندويشات في الشارع ، حاله في هذا حال آلاف الاكشاك المماثلة في العالم ، ومن غير المعروف من أطلق عليه لقب البرنس عندما بدأ نشاطه قبل أكثر من ثلاث عقود ، لكنه أصبح اسمه الرسمي بعد ذلك بعد أن تحول الكشك، الذي كانت تؤمه شرائح إجتماعية مختلفة ، إلى مطعم كبير تحتل موائده المنتشرة في الهواء الطلق، جزءا من أرصفة ومداخل شارع عريض . هذا المطعم يبيع كافة أنوع" الطعام المسبك " الذي يعرفه المطبخ المصري بدءا من الكشري والطعمية والفول والملوخية وإنتهاء بالكباب والكفتة والكوارع ولحمة الراس .

عندما جلست بعد إنتظار في إحدى الموائد التي تتعاقب عليها أكثر من مجموعة خلال وقت قصير ، تذكرت زيارة سابقة لي للقاهرة ، حيث طلبت وقتذاك من مضيفي تخفيفا عنه أن نأكل في قاع المدينة وفي أحد مطاعمها الشعبية ، يومها أخذني إلى مطعم في السيدة زينب لايقدم إلا الفول والطعمية وما يدور في فلكها ، كان اسم المطعم مطعم الجحش ، وكان رواده بكثرة وتنوع مطعم البرنس ، الذي أدركت أنه لا يختلف من حيث الروح، ومستوى النظافة ، عن مطعم الجحش حتى لو اختلفت المسميات .

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com