تقهقر الموارنة
تقهقر الموارنةتقهقر الموارنة

تقهقر الموارنة

تشهد الطائفة المارونية المؤسسة للكيان اللبناني تراجعا يوازي شبه تقهقر ويتظهّر جليا على الصعيد السياسي بعد أن عجز الموارنة عن الاتفاق على رئيس للجمهورية بسبب انقسامهم العميق، ما وفّر حجّة مجّانية للطوائف الأخرى بالتلطي وراء انقساماتهم واتخاذها حجّة للإبقاء على الفراغ الرئاسي المستمرّ منذ أيار (مايو) الماضي، علما بأنّ هذه الحجّة ساقطة منطقيّا وواقعيا، لأنّه لو اتفق زعماء الموارنة على رئيس فإنه لا يمكن أن ينجح ويصل الى السدّة الرئاسية الأولى من دون موافقة الكتل السياسية وزعماء الطوائف الأخرى.

يناقض هذا التقهقر الماروني توسّع نفوذهم منذ عام 1770 بحيث كان الميزان الديموغرافي يصبّ في صالحهم، ما حدا بأمير الجبل آنذاك فور اعتزاله الإمارة وهو الأمير ملحم على تشجيع أولاده (وهو المسلم المؤمن) على التنصّر وخصوصا مع ضعف أمراء الجبل الآخرين أي الدروز بسبب انقسامهم بين جنبلاطيين ويزبكيين.

واستمرّت قوّة الموارنة بالتصاعد وخصوصا أنهم امتلكوا القوتين الاقتصادية والسياسية، ما دفع بالأمراء الشهابيين واللمعيين (وهم أصلا دروز) الى التنصّر ايضا ولعلّ اشهرهم على الإطلاق الأمير بشير الشهابي المعروف بــ "أبي سعدى" نظرا الى المحبّة الإستثنائية التي كان يكنها لابنته الكبرى.

ويشرح المؤرخ كمال الصليبي في كتابه الشهير "تاريخ لبنان الحديث" عناصر قوة الموارنة المتمثّلة آنذاك بارتباطهم بصناعة الحرير اللبناني وهي وصلت بين أوروبا وبلاد الشرق ما ضاعف ثرواتهم وعزّز نفوذهم الاقتصادي، أما العنصر الثاني فيتمثل بعلاقة كنيستهم الوطيدة بأوروبا حيث درس رجال الدين عندهم في الفاتيكان وهذا الارتباط المباشر أفادهم جدّا ومنحهم تأييدا سياسيا خارجيا لم تعرف الطوائف الأخرى مثيلا له.

وتطوّر النفوذ الماروني مع السنين واستمرّ بالتصاعد بعد تأسيس دولة لبنان الكبير ثم الاستقلال عام 1943، وبدأ بالانحسار منذ اندلاع الحرب اللبنانية عام 1975 وما رافقها من حروب "أخوية" في ما بينهم توّجت بالحرب القاتلة في نهاية ثمانينيات القرن الفائت بين العماد ميشال عون والقوات اللبنانية برئاسة سمير جعجع.

هذه الحرب العسكرية التي أضعفت المسيحيين وجعلتهم يخرجون مغلوبين من الحرب لمّا تزل مستمرّة اليوم بأساليب سياسيّة، ولم يتّخذ القائدان المسيحيان عبرا من المحن التي مرّا بها وخصوصا بعد إقرار اتفاق الطائف الذي صار جزءا من الدستور اللبناني والذي انتزع امتيازات رئيس الجمهورية الماروني ليمنحها لرئيس الحكومة وللوزراء، ثمّ مع نفي ميشال عون لأعوام الى فرنسا وسجن جعجع 11 عاما، وهو لم يكن ليخرج من سجن وزارة الدفاع لولا اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري في 14 شباط 2005 وخروج الجيش السوري من لبنان.

انحطاط تامّ يقابل تألق الماضي: فالموارنة اليوم يعانون من نزيف هجرة الشباب، فما إن يتخرّج شاب أو فتاة حتى يبدآ بالتفتيش عن فرصة عمل في الخارج، كما تعاني الطائفة من فقدان المبادرة التي تجعلها حاجة لجميع الأفرقاء اللبنانيين، وعوض المبادرة بأفكار تصلح ذات البين بين الطائفتين السنية والشيعية أصبح الموارنة تابعين إما لـ"حزب الله" وإما لـ"تيار المستقبل"، هذا الارتباط المباشر بالصراع المحتدم بين السعودية وإيران أضعف الموارنة وأفقدهم أوراق اللعب التي تصبّ في صالح طائفتهم وفي صالح لبنان أيضا، بالإضافة الى الإهمال السياسي الذي ترصده عند فئة الشباب المسيحيين الذين لا يبدون اهتماما بالإنخراط في مؤسسات الدولة وخصوصا الأمنية منها وقد وصلت نسبة المسيحيين في الجيش اللبناني الى حدّها الأدنى منذ الاستقلال عام 1943، هذا بالإضافة الى "الميزة" المارونية الراسخة والمتمثلة بمحاربتهم لبعضهم بعضا على المستويات كلّها ما يزيد من ضعفهم ويشلّ قدرتهم على المبادرة.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com