المصالحة الكورية وسياسة الاحتواء
المصالحة الكورية وسياسة الاحتواءالمصالحة الكورية وسياسة الاحتواء

المصالحة الكورية وسياسة الاحتواء

بخلاف الظاهر، فإن  المنتصر الوحيد في لقاء القمة بين شطري كوريا، سيكون في نهاية المطاف كوريا الجنوبية. صحيح أن تهديدات رئيس كوريا الشمالية وتلويحه بالسلاح النووي ، أجبر كوريا الجنوبية، ومن ورائها الولايات المتحدة، على إبداء مرونة سياسية في مواجهة الرعونة الكورية الشمالية، إلا أن الثمن المفترض أن يدفعه الشطر الجنوبي لا يقارن سياسيًا بالثمن المنتظر من الشطر الشمالي.

ما يمكن أن يحدث بعد لقاء القمة بين الكوريتين، وبعد اللقاء المحتمل بين دونالد ترامب والزعيم الكوري الشمالي،  يعيد للأذهان ما حدث للاتحاد السوفيتي السابق قبل انهياره.

 فسياسة إعادة البناء  والمكاشفة "البرسترويكا والغلاسنوست"، التي بشّر بها آخر رئيس للاتحاد السوفيتي ميخايئل غورباشوف، في نهاية الثمانينيات      ومستهل التسعينيات وأدت إلى تفكك وانهيار المنظومة السوفيتية بالكامل، جاءت تتويجًا لسياسة الاحتواء التي انتهجتها الولايات المتحدة إزاء موسكو على وقع الضغوط الاقتصادية التي كان يمر بها الاتحاد السوفيتي في عقدي السبعينيات والثمانينيات.

ولم تؤد تلك السياسة، إلى إنهاء الحرب الباردة، ووقف سباق التسلح فقط، بل انتهت إلى تخلي السوفيت عن حلفائهم وعن سباق التسلح، وعن سياساتهم الاشتراكية لتتفرد الولايات المتحدة بعد ذلك، بقيادة العالم، وتضع حدًا للتهديد الشيوعي إلى الأبد.

اليوم يتكرر السيناريو في شبه الجزيرة الكورية  فالهدف السياسي المعلن للحوار الجديد، مع كوريا الشمالية  هو نزع السلاح النووي من شبه الجزيرة الكورية، والتخلي عن القدرات العسكرية الصاروخية المرتبطة به.

في مقابل ذلك، فإن ما هو مطلوب من سيؤل هو مساعدات مالية واقتصادية، تعين كوريا الشمالية على تجاوز أزماتها الخانقة والتي وصلت بها حد المجاعة الفعلية . ومثل هذه المساعدات بطبيعة الحال، وبسبب عوامل اجتماعية وثقافية، لا بد أن  تحمل معها رياح التغيير والانفتاح الذي قد ينتهي بأكثر الجمهوريات الشيوعية إنغلاقا ،  إلى تغيرات سياسية وأيديولوجية كتلك التي حدثت في المنظومة السوفيتية من قبل، وتلك التي انتهت بحل قضايا مستعصية كوحدة شطري ألمانيا، وخلافات عرقية وإقليمية عديدة داخل أوروبا  فضلًا عن إشاعة جو من الممارسة الديمقراطية واحترام الحريات.

والثمن الذي قد تضطر كوريا الجنوبية وغيرها من دول المنظومة الغربية لدفعه إلى كوريا الشمالية، هو ثمن بخس بالمقارنة مع ما سيدفعه الشطر الشمالي . فكوريا الشمالية ستتخلى عن كامل مقومات القوة التي تتمتع بها؛ إنْ هي تخلت عن سلاحها النووي، وقوتها العسكرية، فيما سيكون الثمن  الذي ستدفعه سول بالمقابل ثمنًا ماليًا واقتصاديًا ضئيلًا، إذا قورن بالإمكانيات الكبيرة التي يتمتع بها الشطر الجنوبي والتي تؤهله، لا لدفع ثمن التخلي عن السلاح النووي  فقط ، بل تكرار ما فعلته ألمانيا  لشطرها الشرقي ،في بداية التسعينيات من القرن الماضي، عندما أدت التطورات السياسية  المتلاحقة التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفيتي إلى خلق واقع سياسي جديد في أوروبا؛ أدّى اتوماتيكيًا إلى توحيد شطري ألمانيا.

ومع أنه لا زال من المبكر المراهنة على أن لقاء القمة بين الرئيس الكوري الشمالي"كيم جونج أون" ورئيس كوريا الجنوبية "مون جاي إن" سيقود في نهاية المطاف إلى وحدة الكوريتين، فإن هناك من يرى أن الزعيم الشمالي الشاب الذي قضى وقتًا في الغرب قد يكون أكثر استعدادًا للمغامرة والتخلي عن سياسة الانغلاق التي ورثها عن جده المؤسس كيم إيل سونج، وابنه من بعده، وعندها فإن رياح التغيير لن تبقى بحدود العلاقات السياسية والاقتصادية، بل ستتفاعل باتجاه خلق واقع جديد في شبه القارة الكورية من الصعب تجاهله أو تجاوزه. والأمر الآخر، إن الدول التي دعمت التشدد الكوري الشمالي منذ انتهاء الحرب الكورية أواخر الأربعينيات كالاتحاد السوفيتي، والصين لم تعد موجودة على الخريطة السياسية، أو ليست مستعدة لتقديم مثل  ذلك الدعم، وباتت تنظر في كثير من الأحيان لكوريا الشمالية على أنها عبء سياسي على علاقاتها بالغرب أكثر من كونها حليفًا يمكن الركون إليه والتعامل معه وبالتالي فإن هذه الدول ستدعم أي خطوات إنفتاحية للشطر الشمالي ، حتى لو كان ثمن ذلك علاقات التحالف القديمة  .

كل المؤشرات تقول، إن لقاء القمة بين زعيمي الكوريتين ومن بعد بين الرئيس الأمريكي والرئيس الكوري الشمالي هو بداية لحقبة جديدة قد تغير الخريطة السياسية في عموم القارة الآسيوية، وإن عاصفة التغيير التي بدأت بلقاء القمة لن تتوقف عند حدود الملف النووي ، بل ستكون مقدمة لخطوات انفتاح عديدة أخرى ،  تبشر ببرسترويكا وغلاسنوسنوست على الطريقة الكورية.

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com