خطوة خطوة على الطريقة الروسية
خطوة خطوة على الطريقة الروسيةخطوة خطوة على الطريقة الروسية

خطوة خطوة على الطريقة الروسية

تُذكّر سياسة روسيا في سوريا، بسياسة الخطوة خطوة التي انتهجها وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر في الشرق الأوسط في أعقاب حرب أكتوبر، والتي بدأت باتفاقات عسكرية، عرفت باتفاقيات فض الاشتباك، لتنتهي في نهاية المطاف باتفاقات سياسية شاملة غيّرت الخريطة السياسية في الشرق الأوسط بالكامل.

سياسة الخطوة خطوة الروسية في سوريا، تستلهم خطوطها العريضة من التجربة الكيسنجرية، إذ بدأت بمقاربة عسكرية، أطلق عليها اتفاقات خفض التوتر، واستهدفت  حصر مناطق الاشتباك، وتحديد أطرافها، وعزل من لا تنطبق عليه الشروط اللازمة، ليكون جزءًا من تلك الاتفاقيات، أو شريكًا في أي تسويات.

ورغم الطبيعة العسكرية لاتفاقيات خفض التوتر فقد كان هناك شبه إجماع على أنها حملت نكهة سياسية، فقد مهدت للمفاوضات السياسية التي تلتها، ووفرت غطاء قانونيًا سمح للقوات الروسية وقوات النظام السوري، بمهاجمة العديد من المناطق التي كان يسيطر عليها المسلحون الذي صنفوا، إما  كمجموعات إرهابية، أو كمجموعات رافضة للتسوية السياسية.

وما حدث في الغوطة الشرقية التي شهدت اتفاقات أخرجت المسلحين من معظم محيط دمشق، هو خطوة  من الخطوات في هذا الاتجاه، بل إنها  قد تكون النقلة قبل الأخيرة في لعبة الشطرنج الجارية على امتداد الساحة السورية، والتي تتغير فيها المواقع، وتتبدل فيها التحالفات، بشكل غير مفهوم في معظم الأحيان، أو غير متوقع في أحيانً أخرى.

الاتفاقات في الغوطة الشرقية، هامة من الناحيتين الجغرافية والسياسية، ففضلًا عن المساحة الجغرافية الواسعة للغوطة، والحجم الديمغرافي الكبير لها، فإن قربها من العاصمة يعطيها أهمية استراتيجية ، في حسابات الأزمة ويجعل من الاتفاق حولها، تطورًا نوعيًا في مسار ها ، وفي التداعيات العسكرية المتصلة بها.

 فدمشق العاصمة، التي ظلت لسنوات في مرمى المسلحين الذين كانوا يُذكّرون  النظام السوري، بشكل دائم، بوجودهم وخطرهم، باتت الآن في مأمن نسبي، ولم يعد هناك ما يهددها إلا بعض الجيوب الصغيرة، أو المناطق المعزولة، وهي جيوب ومناطق، لا تُغيّر من الناحية العملية معادلة المواجهة العسكرية، ولا ميزان القوى الكلي.

وأكثر من ذلك فإن ما حدث في الغوطة يشكل سابقة، إذ يمكن أن تُستنسخ اتفاقات وانسحابات مماثلة من المناطق الأخرى، القريبة من العاصمة والتي لا تزال ضمن المناطق العصية على النظام، كمخيم اليرموك، والقلمون والمناطق الجنوبية في درعا وحوران، والتي باتت في عزلة، ولم تعد تشكل من الناحية العسكرية عقدة، ولا ورقة ضغط تسمح بأي مناورات سياسية أو عراقيل أمام  أي اتفاقات ميدانية.

وإذا صحت التقارير الدبلوماسية، فإن الاجتماع المقبل في اسطنبول بين روسيا وكل من إيران وتركيا، سيجد في معركة الغوطة، وما تمخض عنها ،  بداية جديدة للمسار السياسي الذي تعثر في جنيف مرات وتعطل في موسكو وسوشي وطهران أكثر من مرة. إذ  بينت  تجربة مناطق خفض التوتر هشاشة الاتفاقات العسكرية  ، كونها لم تنزع فتيل القتال ، ولإنها أبقت للقوى المحلية  مساحة واسعه للمناورة ،  وهو الأمر الذي  عرقل الحلول، وأربك التفاهمات،  فكانت فرص التسويات تتراجع في كل مرة، أو تتغير عند كل منعطف.

معركة الغوطة الشرقية تقدم معطيات جديدة للجهود السياسية في المرحلة المقبلة. لكن هذه المعطيات، مهما اختلف المراقبون في تقييمها، تظل محكومة برؤية وتفاهمات القوى الإقليمية والدولية وليس القوى المحلية . فالنظام الذي نجح في بسط سيطرته العسكرية على الغوطة الشرقية،  غير  قادر على فرض رؤيته السياسية في أي حل، ولا قطف ثمار ما تحقق له من إنجاز عسكري. فالقوى الدولية والإقليمية الفاعلة في الأزمة، لديها حسابات، تختلف عن حسابات القوى المحلية. وهي بما لديها من قدرة ضغط ستحدد الكيفية التي يمكن فيها استثمار الإنجازات العسكرية، وتحديد الحصص والأحجام في أي حل سياسي .

ما جرى  في الغوطة الشرقية لا يعني أن هناك فريقًا انتصر وآخر انهزم، بل يعني أن جميع الأفرقاء في الداخل، لم تعد لديهم قدرة المواجهة العسكرية في الميدان ، ولا مرونة المناورة السياسية في قاعات التفاوض ، وأنهم باتوا أكثر استعدادًا للقبول بالحلول الوسط التي تعرض عليهم ،  وتجرّع  الدواء الذي يقدم لهم حتى لو كان مرًّا.

هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة إرم نيوز

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com