فلتسقط العطور!

فلتسقط العطور!

أخيرا، وجد الفقراء ضالتهم؛ شعار لطيف معطر لا يستتبع أي مساءلة، ولا إراقة قطرة دم واحدة، ولا يفجر غضب شرطي واحد يستدعي مطاردة في الشوارع بالرصاص أو الهراوات والغاز المسيل للدموع.

لقد عرف الفقراء عدوهم الحقيقي، وأزاحوا الغشاوة عن أعينهم، فأسباب الجوع تتمثل في مكان آخر، ولا جدوى من خطيئة التطاول على حكومة أو حتى رئيس بلدية؛ إذا، فليرتفع ملء الحناجر شعار الخلاص: تسقط العطور!.

هكذا، وفي لحظة كشف، أدركت الحكومة التونسية سبب البلاء، فقررت وضع اليد على الجرح، وتوجيه الاتهام إلى العطور ومواد التجميل وأطعمة الحيوانات الأليفة، وتحميلها مسؤولية استنزاف العملة الصعبة وحرمان الطبقات الفقيرة من استيراد ما يكفي من الخبز، فكان لزاما عليها تطبيق مبدأ "الطعام قبل العطور"، وتسليح القرار بالهتاف والتصفيق وهجاء الثراء والرفاه ونعومة العيش!.

الخطة التي تستعد الحكومة التونسية لتمريرها بطلب من الرئيس قيس سعيد، تهدف إلى فرض قيود على الواردات من المواد "الكمالية" وقد عرف منها (حتى الآن) العطور ومستحضرات التجميل وأطعمة الحيوانات، بسبب الوضع الاقتصادي الصعب وتآكل احتياطات العملة الصعبة، أملا في خفض العجز التجاري وترتيب الأولويات في النفقات العمومية، وقد تساءل سعيد لدى لقائه قبل أيام رئيسة الحكومة نجلاء بودن" كيف يمكن تفسير توريد الأكلات الخاصة للحيوانات الأهلية، أو توريد مواد التجميل دور العطور الأجنبية، وتوجد وقتها العملة الصعبة، في حين إن المواطنين يشكون في أغلبهم الحد الأدنى من ضروريات الحياة؟!".

تساؤلات سعيد لم ترق لكثير من التونسيات والتونسيين، وغصت مواقع التواصل الاجتماعي بالجدل والسخرية، من قبل أكاديميين وإعلاميين، وناشطات تبادلن النصائح حول أفضل الطرق للمحافظة على الجمال والنظافة دون ذل الاستعانة بالماركات العالمية!.

والمدهش بالنسبة لخبراء تونسيين هو تركيز الرئيس على معضلة استيراد العطور ومواد التجميل، وهذا القطاع لم تتعد حصته 100 مليون دولار في العام 2021 من إجمالي واردات بلغت أكثر من عشرين مليار دولار وفق بيانات رسمية.

الهجوم على الكماليات المستوردة، باعتبارها أحد أسباب الفقر، يتردد صداه هذه الأيام في أكثر من قارة وليس استثناء تونسيا، رغم أن سياسة المنع في عشرات التجارب لا تحتاج إلى شرح لكشف جدواها، ويكفي تأمل الأمثلة الساطعة في كوريا الشمالية وكوبا وفنزويلا.

القصة لم تتغير منذ مئة عام؛ يبدأ الأمر، لأجل خبز الفقراء، بمنع استيراد زجاجة عطر وأحمر شفاه، ثم تتوسع قائمة الكماليات لتشمل الساعات والملابس والأجهزة الكهربائية والسيارات، والمعلبات والمكسرات والعلكة والشوكولاته والألعاب وحليب الأطفال، وأقلام الحبر والصحف والمطبوعات الغربية والمدارس واللغات الأجنبية والسياح، ثم ينتهي الأمر كل مرة، بفقدان الخبز!.

الماركات العالمية، لن تعدم بالطبع سبل الدخول، ولن تفقد زبائنها، بينما يلوذ الفقراء، كل مرة، بالبضائع المقلدة، وأسواق الأرصفة وهي تعرض في وضح النهار الزبدة الفاسدة والحليب المغشوش واللحوم مجهولة النسب، دون أن يمنعهم ذلك من المشاركة بحماس ظاهري، في حملة وطنية لمقاطعة المنتجات الغربية والأمريكية!.

رفع القادة السوفييت شعار مقاطعة كل ما يمت للغرب بصلة، رأفة بشعوبهم من الأثر المدمر لثقافة الاستهلاك، ومؤامرات السينما الأمريكية و"كوكا كولا" و"بيتزا هت" و"ماكدونالدز"، وبينما كانت تلك الشعوب تصفق وتهتف، كان لعابها يسيل لتذوق نكهة الحياة المحرمة!.

قرارات المنع السوفييتية، كانت محروسة لسبعة عقود بملايين الجنود وآلاف الرؤوس النووية، وعشرات آلاف الدبابات وعيون "الكي جي بي" التي لاتنام؛ لكنها، لم تمكن الاتحاد السوفييتي العظيم من الاهتداء إلى طريق الخبز، فقررت شعوبه، في لحظة واحدة، تمزيق الخريطة والعلم والنشيد.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com