عثمان ميرغني
في نهار الخميس 8 سبتمبر العام 1983، بثت الإذاعة الرسمية في السودان بيانًا مهمًا لرئيس الجمهورية آنئذ المشير جعفر محمد نميري أعلن فيه تطبيق ما أطلق عليه حينها (قوانين الشريعة الإسلامية)، ونشرت الصحف الحكومية _ولم تكن في السودان غير صحيفتين كلاهما حكوميتان_ الخبر بعدة عناوين طويلة.
وكتبت صحيفة "الأيام" _الجمعة 9 سبتمبر 1983_ في سياق خبرها عن إعلان رئيس الجمهورية لما أسماها قوانين الشريعة الإسلامية (قدّم الرئيس القائد نميري رئيس الجمهورية، صباح أمس، السمات العامة لقانون العقوبات لسنة 1983 الذي جاء مرتبطًا بالشريعة الإسلامية رباطًا عضويًا وروحيًا).
ومضى الخبر للجزء الأهم في القصة، قائلًا: (فقد استعرض سيادته مواد القانون الجديد، حيث السارق تقطع يده وفق الأحكام الشرعية، والقتل أو القطع من خلاف أو السجن المؤبد للنهب المسلح أو السطو المسلح..).
هكذا لخص الخبر الرؤية والفكرة من القانون، وكشف فهم من أصدره للدين الاسلامي.
النظام السياسي حينها كان في أضعف حالاته ويبحث بنهمّ عن "الهدف الذهبي" لينقذه من السقوط المدوي في ظل الفشل السياسي والاقتصادي الذي كان يكابده، فاختار ما ظنه إيقاعًا تطرب له الجماهير ببيع وتسويق فكرة النظام المتطهر بعباءة الدين، فأعلن قانون العقوبات الجنائية الجديد بعلامة تجارية عليها أيدٍ وأرجلٍ مقطوعة من خلاف. كانت عبارة (حيث السارق تقطع يده وفق الأحكام الشرعية) التي وردت في الخبر تكشف جدية البحث عن الرنين الشعبي.
وبقية القصة ربما معروفة، حيث باتت الصحف تتسابق في متابعة قرارات المحاكم الناجزة التي تأمر بقطع الأيدي، وأحيانًا الأيدي والأرجل من خلاف، لمجرمين تراوحت سرقاتهم ما بين بعض الملابس إلى مبالغ زهيدة.
وهذه الوقائع التاريخية لم تكن سوى حلقة متكررة من الاستخدام السياسي للدين بفهم وأسلوب يمعن في الإساءة إليه ليتحور المعنى الحقيقي للدين إلى صورة نمطية مركبة مرعبة.
علة الأمر ليست في استخدام الدين علامة سياسية للترويج فحسب، بل في عزل الدين عن التكوين الإنساني الطبيعي، ووضعه في مقام أقرب إلى الموهبة أو المهارة المكتسبة، فتصبح ممارسة "الدين"، وفق هذا المفهوم، أشبه بمشي لاعب الأكروبات فوق الحبل المشدود بين عمودين، المشي بوضع مكتسب وليس بوضع طبيعي.
مجمل حياة الإنسان من صرخة المهد إلى صراخ اللحد تكوين طبيعي يستوي فيه البشر بما تحفظه الجينات من أسرار النشأة، ومقتضيات التدرج الزمني، لا يخرج عن هذا المسار إلا الاستثناء الذي يعبر عن حالة "غير طبيعية" قد تحسب في سياق الحالات المرضية الشاذة عن الطبيعة. وبهذا الفهم يصبح "الدين" جزءًا من السياق الطبيعي _الفطرة_ عند الإنسان Built in لا يحتاج تحميله "Downloading" إلى العقل أو الضمير من مصدر خارجي.
وبعبارة أخرى، الدين "قيمة صفرية" لا تقاس بذاتها بل بتأثيرها على السلوك العام، وأقرب إلى مفهوم قياسات الارتفاعات الجغرافية، فإذا قيل إن هذه المدينة ترتفع 1000 متر فوق سطح البحر فلا يسألن أحد: أين سطح البحر؟ فهو خط الصفر الذي بدأ منه القياس. بل يظل السؤال هنا عن موقع المدينة فوق سطح البحر الذي هو خط الصفر.
الدين قيمة صفرية لأنه المرجعية التي يقاس ما فوقها لا موقعها، فلا ينسب السلوك ولا القانون ولا الارتباط السياسي إلى الإسلام، بل إلى الدرجة التي ارتفع بها من الصفر المرجعي الذي يمثله الدين، فالرقم 7 مثلًا يكتسب معناه من كونه يرتفع فوق الصفر بسبع درجات، ودون القيمة الصفرية المرجعية لا يصبح له معنى، لأنه لو حُسب من "الواحد" فهو 6، ومن الرقم "اثنان" هو 5، فهو قيمة متحركة لا يكتسب ثباته إلا بالقياس من القيمة المرجعية عند الصفر.
وبهذا المفهوم، يصبح المحك هو "قِيم" الدين لا "بطاقة" الدين، فالبطاقة _الدين_ صفر مرجعي، يرتفع سلوك الإنسان بحساب ارتفاع "القِيم" لا البطاقة، فمقدار الصدق، والنزاهة، والاحسان، وغيرها من القيم، هو المقياس لا البطاقة.
وأهمية هذا الفهم للدين أنه يحوله في ضمير الانسان من "كتالوج" يحوي تعليمات الحلال والحرام إلى منبع ذاتي لتقدير الخير والشر وفق القيم المكتسبة، كما نص الحديث النبوي الشريف: ( استفت قلبك، البِر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك).
وحديث آخر: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به)، والهوى هو الـ(لا) شعور _الضمير_ عند الإنسان، الإحساس العفوي الذي يرتفع بقدر ارتقاء القيم عند الإنسان أو ينحدر بقدر انحطاطها.
فتصبح العبادات _بهذا الفهم_ ليست أعمالًا مقصودة لذاتها بل لتأثيرها على قدرة الإنسان في ترفيع نفسه إلى أفضل مقام يوفر القدرة على التماس طمأنينة النفس في البِر و تردد الصدر في الإثم، فإذا صلَّى الإنسان يومه كله، وصام الدهر كله فالعبرة لا بمقدار "العبادة" بل بتأثير ذلك على ترفيع إلهامه الذاتي للصواب والخطأ، فينعكس على سلوكه الخاص والعام.