logo
اتجاهات

بوتين يربح الحرب من دون خوضها

بوتين يربح الحرب من دون خوضها
10 فبراير 2022، 11:06 م

خير الله خير الله

ليست “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران وحدها التي تتجرّأ على الولايات المتحدة وتسعى إلى فرض شروطها في أيّ صفقة أو اتفاق على ارتباط بملفّها النووي. روسيا أيضا تتجرّأ وتستخف بالإدارة الأميركيّة الحاليّة التي لا تزال إدارة حائرة منذ اليوم الأوّل لدخول جو بايدن البيت الأبيض قبل 13 شهرا.

ربح فلاديمير بوتين حرب أوكرانيا من دون أن يحارب. يمكن القول إنّه ربحها بالنقاط بمجرّد حشد الجيش الروسي على حدود أوكرانيا. كان مشهد استقباله الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي أجلسه في إحدى قاعات الكرملين، في ظلّ تمثال ضخم للقيصر إسكندر الثاني، على الطرف الآخر من طاولة تتميّز بطولها، كافيا لإظهار مدى الاستخفاف الروسي بفرنسا. بل هو استخفاف روسي بأوروبا أيضا. أي نوع من العقوبات تستطيع أوروبا، في مقدمها ألمانيا، فرضها على روسيا في وقت هي في أمسّ الحاجة إلى الغاز؟

لم تكن كلّ التهديدات التي صدرت عن الأوروبيين والأميركيين سوى كلام لا مضمون حقيقيا له على أرض الواقع. ليس فلاديمير بوتين في نهاية المطاف سوى دكتاتور آخر من العالم الثالث مع فارقين كبيرين يلعبان لمصلحته. أولهما امتلاك روسيا للسلاح النووي وللصواريخ البالستية والأسلحة المتطورّة نسبيا. أمّا الفارق الثاني فيكمن في امتلاك روسيا لثروة نفطية وغازيّة تساعد اقتصادها الهشّ في الصمود. تحسّن الوضع الاقتصادي الروسي تحسّنا كبيرا في الفترة الأخيرة في ضوء ارتفاع سعر النفط والغاز. جعل ذلك بوتين يتصرّف بطريقة الواثق من نفسه أكثر من أيّ وقت.

أعاد بوتين العالم إلى أيّام الحرب الباردة بعد ثلاثين عاما بالتمام والكمال على تفتت الاتحاد السوفياتي وإعلان ذلك رسميّا أوائل العام 1992 بعد اعتراف ميخائيل غورباتشوف أواخر العام 1991 بانهيار القوّة العظمى الثانية في العالم. المفارقة أنّ خطاب غورباتشوف، آخر رئيس للاتحاد السوفياتي، لم يلق في حينه الاهتمام العالمي المتوقّع، بل مرّ مرور الكرام في مرحلة حفلت بالأحداث منذ انهيار جدار برلين في تشرين الثاني – نوفمبر 1989 وبدْء دول أوروبا الشرقيّة التصرّف بمعزل عن الأخ الأكبر في موسكو.

كشف بوتين أنّه سياسي محنّك يلعب أوراقه بشكل جيّد. من ورقة امتلاك السلاح النووي والصواريخ البعيدة المدى… إلى ورقة النفط والغاز، دفع بوتين في اتجاه تأكيد القدرة على المناورة. حرص على الاجتماع بماكرون، الذي لم يستخدم معه أي لياقة ذات طابع دبلوماسي، بغية السماح له بلعب دور على الساحة العالميّة. اجتمع بوتين بالرئيس الفرنسي بعيد عودته من بيجينغ حيث التقى الزعيم الصيني شي جين بينغ الذي لديه حسابات يريد تصفيتها مع أميركا. كان اللقاء بين بوتين وشي بمثابة رسالة فحواها أن الغرب لن يستطيع بعد الآن اللعب على وتر التنافس الصيني – الروسي كما كان يفعل في الماضي القريب. لم يذهب الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون إلى بيجينغ في العام 1972 برفقة وزير الخارجيّة هنري كيسنجر إلّا من أجل زيادة الهوة بين الاتحاد السوفياتي والصين الشعبيّة والاستفادة من التناقضات بينهما إلى أبعد حدود.
فوق ذلك كلّه، لدى فلاديمير بوتين الذي يهيئ منذ الآن الانتخابات الرئاسيّة للعام 2024، هاجس إثارة المشاعر القوميّة الروسية لدى شعبه. بالنسبة إليه توفر كلّ زيارة لمسؤول أجنبي فرصة كي يظهر عظمة روسيا وتاريخها العريق. ليس صدفة أن يهيمن تمثال القيصر إسكندر الثاني على القاعة وأن يكون التمثال قبالة ماكرون. هذا ما لاحظه الباحث والأستاذ الجامعي الفرنسي فابريس بالانش الذي علق على المشهد في تغريدة له بقوله “إسكندر الثاني هو القيصر الإصلاحي الذي ألغى العبودية وحدّث روسيا، لكنه القيصر الذي قمع بالدمّ ثورة الشعب البولندي في العام 1863… تحت أنظار الإمبراطور الفرنسي نابوليون الثالث (الملقب بنابوليون الصغير) الذي لم يتجرّأ على رفع إصبعه”. قبل ذلك، كما يذكر الباحث الفرنسي، استقبل بوتين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في آذار – مارس من العام 2020 في قاعة زينها تمثال للإمبراطورة كاترين الثانية. الهدف من وجود التمثال “تذكير أردوغان بأنّ تركيا لم تربح أي حرب خاضتها مع روسيا في يوم من الأيّام”.

ما الذي يريده بوتين، إضافة بالطبع إلى إثارة الحماسة لدى الروس وتذكيرهم بأنّ في استطاعته استعادة أمجاد الاتحاد السوفياتي؟ عمليا، يريد الرئيس الروسي توسيع منطقة النفوذ الروسيّة في أراض على حدود بلده وأبعد من ذلك. نجح في تحقيق هدفه عندما استعاد شبه جزيرة القرم من أوكرانيا في العام 2014 ونجح في قمع الثورة الشعبيّة التي قامت في كازاخستان المجاورة قبل أشهر قليلة. نجح في إيجاد موطئ قدم لروسيا في المياه الدافئة عندما تدخل مباشرة في سوريا ابتداء من أيلول – سبتمبر 2015 من أجل إبقاء بشار الأسد في دمشق. صارت لروسيا قواعد عسكريّة دائمة في طرطوس واللاذقيّة.

لا شكّ أن دولا أوروبية عدّة تراجع حاليا حساباتها، خصوصا إذا تبيّن أن بوتين سيحقق عبر حشوده العسكرية ما يطمح إليه في أوكرانيا. بدل انضمام أوكرانيا إلى حلف الأطلسي (ناتو) سيتم التوصل إلى تسوية ترعاها أوروبا وتوافق عليها إدارة بايدن تجعل من أوكرانيا دولة محايدة تراعي الجار الروسي إلى أبعد حدود. ستصبح أوكرانيا “دولة ذات سياسة محدودة”، كما كانت عليه دول أوروبا الشرقيّة قبل انتهاء الحرب الباردة مطلع تسعينات القرن الماضي.

لا شكّ أن فلاديمير بوتين نجح في حربه الأوكرانية من دون أن يخوضها. هل يربح يوما حربه على الفقر والتخلف في داخل روسيا نفسها؟ في النهاية لم تقدّم روسيا يوما أيّ خدمة لبلد أجنبي وجدت فيه باستثناء المشاركة في حرب على الشعوب التي تريد التحرر من حكام دكتاتوريين، كما الحال في سوريا. أمّا في روسيا نفسها فقد فشل بوتين اقتصاديا واجتماعيا على كلّ صعيد. لا تنتج روسيا برادا أو غسالة أو سيارة. كلّ ما في المنازل الروسيّة مستورد من الخارج. إلى جانب ذلك يعاني المجتمع الروسي من تحوله إلى مجتمع عجوز…

يهتمّ بوتين بأمور كثيرة. يهتمّ بنفسه وتلميع صورته. لا شكّ أنّه سياسي حاذق، لكن السؤال الذي سيظلّ يطرح نفسه هل لدى روسيا ما تتكل عليه اقتصاديّا في المستقبل البعيد المدى غير النفط والغاز؟

العرب

logo
تابعونا على
جميع الحقوق محفوظة ©️ 2024 شركة إرم ميديا - Erem Media FZ LLC