نتنياهو يطلب من الوزراء بحكومته تغيير اسم الحرب على غزة من "السيوف الحديدية" إلى "حرب النهضة"
إبراهيم حاج عبدي
بملامحه الودودة وابتسامته المتعبة، يمد هاشم اليمني يده للمصافحة ويقدم معها شيفرة الصداقة منذ اللحظة الأولى، مانحا ضيفه انطباعا بأنها ستدوم لوقت طويل.
لم يتخيل هذا الشاب المنحدر من إب اليمنية أن يحط به الرحال، يوما، في جزيرة ألمانية نائية اسمها زولت، يرتادها المسنون والمشاهير لاجترار الذكريات، وترميم شروخ العمر، والاستمتاع بزرقة البحر على شواطئ جزيرة تعد عقاراتها الأغلى ليس فقط في ألمانيا، بل في العالم.
وقبل أن تحاول الاستعانة بغوغل بحثا عن هذه الجزيرة الضائعة بين الخرائط، نسارع للقول إن زولت هي جزيرة ألمانية مساحتها نحو 100 كيلومتر مربع، وعدد سكانها نحو 15 ألف نسمة، شتاء، فيما يرتفع العدد إلى أكثر من الضعف صيفا، وهي تقع في أقصى نقطة شمال غرب ألمانيا، تطل غربا على بحر الشمال، وهي أقرب للبر الدانماركي منه للبر الألماني، لكنها تتبع الأخيرة.
من شرفات بحر الشمال حيث لا تنقطع أصوات النوارس وهدير الأمواج، أسس الشاب اليمني لبداية جديدة، هاربا من جحيم المعارك في بلاده الممزقة بين الفرقاء، فهو يعمل الآن في فندق سياحي، ومستقر على أرض هذه الجزيرة يتقاسم مع سكانها وزوارها هواء الألفة، دون أن يتقاسم معه أحد لوعة الاغتراب.
مع انطلاقة ما سُمي بـ"الربيع العربي" ووصول شرارته إلى اليمن، أيقن الفتى أن "اليمن السعيد" لم يعد يتسع لأحلامه البسيطة، فقرر مع سيطرة الحوثيين على العاصمة صنعاء أن يغادر البلد الذي لفظ الكثير من أبنائه الذين رفضوا أن يكونوا وقودا في حروب الآخرين.
في ظروف الفوضى التي عمت بلاده، سمع الفتى نداء خفيا يحثه على البحث عن وجهة سفر غامضة، هو الذي لم يذهب يوما لأبعد من إب وذمار وصنعاء، فاجترح حيلة للمغادرة، إذ نجح في الوصول إلى بولندا محطته الأولى، ثم تسلل إلى ألمانيا مقدما أوراق اللجوء، كما يروي.
وما إن حصل على اللجوء، حتى شرع في تعليم اللغة الألمانية، واتبع دورة تدريبية سياحية، وكأنما أراد أن يحدث "ثورة فردية" وقطيعة مع ماضيه الذي افتقر إلى أي شيء يمت للسياحة بصلة، وهو يعمل الآن دون أن يحصل على مساعدات من سلطات ألمانيا التي تعرف كيف تستغل طاقات الشباب القادم إليها، سواء من اليمن أو غيرها من بلدان الشرق الأوسط.
لا يأبه هاشم بالسياسة كثيرا، فحين تسأله عن معنى "الوطن" يرتبك، ويتمتم بجمل غير مترابطة، لكنه سرعان ما يستعين في إجابته بقصيدة لمحمود درويش "جندي يحلم بالزنابق البيضاء"، فيردد مقطعا منها: إن الوطن أن أحتسي قهوة أُمي.. أن أعود، آمنا مع، المساء"، بينما تلمع عيناه بنداوة دمعة عصية.
لا تغريه البطولات والبنادق والشعارات الصاخبة، بقدر ما يروق له هدوء هذه الجزيرة الوادعة، وحين تلح عليه في الإفصاح عن رأي سياسي حول ما يجري في بلاده، يقول: "الحوثيون جهلة ومتخلفون"، ثم يعزز كلامه موضحا: "كل يمني بالنسبة لهم هو مشروع محارب، فحتى الأطفال في سن الخامسة عشرة لم يسلم منهم".
وعندما تسأله عن الحائزة على نوبل للسلام توكل كرمان يعلق باقتضاب شديد: "هي إحدى مصائب اليمن"، دون أن يزيد أي تفصيل حول هذا الرأي الحاسم، المختزل.
وبقدر كرهه الشديد للمعارك والحروب، تراه مبتهجا ببعض الفخر وهو يتحدث عن عبدالله البردوني، وعبدالعزيز المقالح، ووجدي الأهدل وغيرهم من كتاب ومثقفي وفناني بلاده، وكأنه بذلك يبحث عن "يمن آخر" لا يعثر عليه إلا في الكتب والأغاني والتصاميم المعمارية التي استحالت مجرد خيالات مشوشة.
لا يخلو كلام هاشم من الحنين إلى مسقط الرأس وأصدقاء الطفولة الذين تبعثروا مثله في الجهات المختلفة، وإلى دروب قريته البعيدة، خصوصا وأنه لم يختر البعد، عن طيب خاطر، بل استبعد عن أرضه على نحو ما، واقتلع من جذوره..
بيد أن هاشم لا يعرف التنظير كثيرا أو التعبير عما يقاسيه، فيأتي كلامه مشتتا حين يحاول النبش في أرشيف الذاكرة، ليصل إلى استنتاج مرير: إن ما يربطني ببلدي اليمن الآن هو وجود أمي وأبي هناك، وسوى ذلك هو مجرد خيبات وخسارات وحسرات...
يروي هاشم أنه حين قدم أوراق اللجوء في ألمانيا، فإن المسؤول عن ذلك طلب منه أن يردد النشيد الوطني لليمن، كاختبار للتأكد من جنسيته، فرد بعفوية: هل تريد أن أردد النشيد ملحنا أم غير ملحن؟
ويكمل بأن المسؤول أصابه نوبة ضحك متأكدا من "يمنية" هاشم الذي يردد، الآن، في سره نشيد بلاده الوطني، دون أن يلتفت أحد إلى بكاء روحه في هذه الجزيرة التي تمنح سعادة وافرة للأثرياء، فيما هاشم يتغلب على حزنه الصامت بوجه بشوش وهو يمد يدا للمصافحة، تستعيد حرارة أرض اليمن التي ضاقت، على رحابتها، به وبأبناء جيله الذين سقط بعضهم في ساحات الوغى، فيما اختار آخرون رحيلا قسريا نحو المنافي البعيدة.