صندوق النقد الدولي: تصعيد الصراع في الشرق الأوسط قد تكون له عواقب اقتصادية كبيرة
في الحديث عن العلاقات الألمانية الروسية، يطل التاريخ بكل ثقله ليحدد شكل هذه العلاقة المتأرجحة والمعقدة.
وسواء كانت العلاقة قوية أو واهية بين موسكو وبرلين، في هذه الحقبة أو تلك، فإن ذلك يؤثر على مجمل أحوال القارة الأوروبية، نظرا للمكانة التي يحتلها البلدان على المستوى الاقتصادي والسياسي.
جدار برلين
منذ سقوط جدار برلين في مطلع تسعينيات القرن الماضي، والذي كان يمثل رمزا فارقا بين النظام الرأسمالي في ألمانيا الغربية، والنظام الاشتراكي في ألمانيا الشرقية التي كانت تتبع، آنذاك، للاتحاد السوفيتي، شرعت برلين وموسكو في تطوير العلاقات، في سعي منهما إلى ترميم العلاقة الممزقة بفعل الجدار الأيديولوجي، قبل الجدار المادي.
سرعان ما أصبحت روسيا من أكبر موردي الطاقة لألمانيا، وخاصة الغاز الطبيعي، وتم إنشاء عدة خطوط أنابيب لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر ألمانيا، مثل نورد ستريم 1 و2، اللذين اعتبرا رمزًا للتعاون الاقتصادي الوثيق، كما نشطت ألمانيا في تصدير السلع المصنعة والتكنولوجيا.
ووسط هذا الجهد من الجانبين، وصلت هذه العلاقات في زمن قياسي إلى مستويات مرموقة، وأسهمت ظلال التاريخ الشائك بين البلدين في تعزيز الدفء، وتوطيد أواصر الصداقة، فالألمان يشعرون بأن عليهم التكفير عن ذنوب النازية، ذلك أن الحرب العالمية الثانية تعد من أبرز النقاط السوداء في العلاقات بين البلدين.
وفي توصيف العلاقة بين برلين وموسكو، غالبا ما يشير المؤرخون إلى ما يمكن تسميته بـ"عقدة الذنب" المضمرة في صفحات التاريخ الألماني القريب، والتي ما زالت تتحكم في ذهنية الألمان الذين يشعرون بأن أسلافهم "النازيين" مسؤولون عن مآسي الحرب العالمية الثانية التي جلبت الدمار لألمانيا ولأوروبا برمتها، وخلفت ملايين الضحايا.
وبعد الحرب، وخلال فترة الحرب الباردة، انقسمت ألمانيا إلى دولتين: ألمانيا الشرقية، التي كانت تحت النفوذ السوفيتي، وألمانيا الغربية التي كانت ضمن المعسكر الغربي.
كانت العلاقات بين الاتحاد السوفيتي وألمانيا الشرقية متينة، بينما كانت العلاقات مع ألمانيا الغربية باردة ومتوترة إلى أن توحدت ألمانيا، وأسست لعلاقة متينة مع موسكو.
ورغم أن العلاقة بين برلين وموسكو كانت تمر أحيانا بفترات من الفتور؛ بسبب ما تقول برلين "السجل السيئ" لحقوق الإنسان والحريات والقيم الديمقراطية في روسيا، غير أن كل ذلك لم تؤثر على العلاقة الإيجابية خلال العقود الثلاثة الأخيرة، خصوصا أن ثمة مصالح تربط البلدين.
التحول
انقلبت العلاقات الروسية الألمانية إلى النقيض عند غزو روسيا لأوكرانيا في شباط/ فبراير 2022، إذ اختفت لدى العديد من الألمان أي مشاعر عاطفية وودية تجاه روسيا في اليوم الذي كانت فيه دبابات بوتين تزحف عبر الحدود الأوكرانية، ناهيك عن التوتر الدبلوماسي الذي راح يتعمق كلما طال أمد الحرب.
وعلى هذا النحو، فإن الغزو الروسي لأوكرانيا أحدث شرخا واسعا في العلاقات الروسية الألمانية وسط تبادل شبه يومي للاتهامات والتراشق الإعلامي الذي لم ينقطع منذ نحو سنتين، ولعل أحدثها ما قاله الرئيس الروسي السابق ونائب رئيس مجلس الأمن الروسي، دميتري ميدفيديف، فقد أثار الهجوم الأوكراني المباغت في منطقة كورسك داخل الأراضي الروسية غضبا حقيقيا في موسكو بعد ظهور مدرعات ألمانية هناك.
ورد ميدفيديف في تحد بأن الدبابات الروسية قادرة على الوصول إلى وسط برلين.
ووصف ميدفيديف مقالا في صحيفة "بيلد" الألمانية تحدثت فيه عن عودة الدبابات الألمانية إلى الأراضي الروسية بعد 80 عاما، بأنه "انتقامي".
ورقم 80 عاما يعيدنا إلى الوراء وتحديدا إلى معركة ستالينغراد التي انتصر فيها الجيش الأحمر السوفيتي على الجيش الألماني النازي في الثاني من شباط/ فبراير عام 1943، وبالتالي فإن الألمان يتطلعون، الآن، للانتقام، حسب رؤية ميدفيديف.
معركة ستالينغراد
معركة ستالينغراد هي إحدى أهم المعارك الكبرى التي شهدتها الحرب العالمية الثانية، واستمرت حوالي 6 أشهر بين 21 أغسطس 1942 و2 فبراير 1943.
في ربيع 1942م، كانت ألمانيا النازية قد احتلت معظم أراضي أوكرانيا وبيلاروسيا الحالية، وكانت تطمح إلى المزيد، فأمر هتلر قواته باحتلال ستالينغراد، المدينة الصناعية التي كانت تزود الجيش الأحمر بالسلاح والذخيرة، وكان نهر الفولغا الذي يشقّ المدينة، طريقاً ملاحياً مهماً، فضلا عن قيمتها الدعائية والسياسية؛ نظراً لأنها تحمل اسم الزعيم السوفيتي ستالين.
في صيف 1942 شن الجيش الألماني قصفا عنيفا ضد المدينة التي تحول الجزء الأكبر منها إلى حطام، وحقق انتصارا، لكن بحلول فبراير/شباط 1943، كانت القوات السوفيتية سيطرت على المدينة، وأسرت نحو 100 ألف جندي ألماني مات معظمهم في معسكرات الاعتقال الروسية.
وقد قُتِلَ خلال معركة ستالينغراد أكثر من مليوني شخص من الطرفين بمن فيهم المدنيون، لذلك تصنف كإحدى أكبر المعارك دموية في تاريخ الحروب، وكان لها الدور الأكبر في تحول مجرى الحرب العالمية الثانية التي انتهت بهزيمة النازية.
جاذبية المقارنة
ودأب بوتين طوال فترة الحرب على تصوير اجتياح بلاده لأوكرانيا على أنه معركة ضد النازيين، الذين يدعي أنهم يقودون الحكومة في كييف.
وقال بوتين "ما نلاحظه للأسف أن الأفكار النازية ارتدت حلة عصرية، ومظهرا عصريا، وهي تشكل من جديد تهديدا مباشرا لأمن بلادنا".
ورغم الاختلاف الجذري في السياقات التاريخية والظروف الجيوسياسية بين معركة وقعت قبل ثمانية عقود وبين الحرب الأوكرانية الحالية، غير أن جاذبية المقارنة أغرت المسؤولين الروس بتجاهل تلك الاختلافات، والإمعان في الربط بين الحدثين.
دور محوري
تلعب ألمانيا دورًا محوريًا في أمن أوروبا، وتعتبر العلاقة مع روسيا جزءًا لا يتجزأ من استقرار القارة، إلا أن توسع الناتو باتجاه الشرق، ومحاولات روسيا لزيادة نفوذها في مناطق مثل أوكرانيا، وتطلع هذه الأخيرة للانضمام إلى الناتو، أدى إلى توتر العلاقة بين موسكو وبرلين.
ورغم هذا التوتر، فإن برلين تسعى إلى التوازن، وإلى مراعاة الوضع الداخلي، إذ تواجه الحكومة الألمانية ضغوطًا من جماعات مختلفة بشأن كيفية التعامل مع روسيا، فهناك تيارات سياسية تدعو إلى تعزيز التعاون، خاصة في مجال الاقتصاد والطاقة، بينما تطالب أخرى بموقف أكثر صرامة؛ بسبب قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية.
من هنا يمكن القول، إن العلاقات الألمانية الروسية معقدة ومتعددة الأوجه، ورغم أن هناك تعاونا اقتصاديا وثيقا، إلا أن التوترات السياسية والأمنية تلقي بظلالها على هذه العلاقات، وقد يشهد المستقبل مزيدًا من التحديات، حيث ستكون القدرة على التوازن بين المصالح المتناقضة عاملًا حاسمًا في تحديد طبيعة هذه العلاقة.