وثائق مسرّبة تكشف فساد مراكز البحث الأمريكية (تحقيق)
وثائق مسرّبة تكشف فساد مراكز البحث الأمريكية (تحقيق)وثائق مسرّبة تكشف فساد مراكز البحث الأمريكية (تحقيق)

وثائق مسرّبة تكشف فساد مراكز البحث الأمريكية (تحقيق)

كشفت وثائق مسربة عن علاقات مشبوهة بين جماعات الضغط في المجتمع الأمريكي، وبين مراكز البحث المعروفة في الولايات المتحدة بــ"ثينك تانكز"، قبل أن يتم طمس الخطوط الفاصلة بينهما خلال الآونة الأخيرة.

وأكدت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية أنها حصلت على آلاف المراسلات بين شركة "لينار كووبريشن"، أكبر شركة لبناء البيوت في سان فرنسيسكو، وبنك "جي بي مورغان تشيس"، وأكبر شركة تمويل أمريكية "كي كي آر"، و"مايكروسوفت"، والشركة اليابانية "هيتاشي"، تثبت أن الدعم المالي يأتي عادة بتأكيدات من معهد "بروكينغز"، وأنه سيقدم منافع للتبرع من خلال تنظيم مناسبات، يتحدث فيها مديرو الشركات إلى جانب مسؤولي الحكومة.

وأكدت هذه الوثائق، التي حصلت عليها الصحيفة الأمريكية بالتعاون مع "مركز نيو إنغلاند للتحقيق الصحفي"، طمسَ وغيابَ الخط الفاصل بين الباحثين وجماعات الضغط، والقيام بعمليات ضغط نيابة عن شركات كبرى، أو دول أجنبية.

وتقدمت شركة "لينار" بخطة قوامها 8 مليارات دولار، لبناء وتنشيط رقعة قاحلة في سان فرانسيسكو، فوجدت صوت ثقة وتأييد من قبل معهد "بروكينغز"، مركز الأبحاث الأكثر شهرة في العالم.

علاقات منفعة

وكشفت إحدى المراسلات بين نائب رئيس المركز بروس كانز، وشركة "لينار" قال فيها "من الممكن أن تصبح هناك علاقة منفعة إنتاجية، حيث سيحصل بروكينغز على 400 ألف دولار كتبرعات مختلفة من قبل (لينار)".

وأشارت الرسائل إلى أن مراكز أبحاث بدأت الترويج للمشروع، وعرضت في وقت لاحق تقديم المساعدة لشركة "لينار"، للتعامل مع وسائل الإعلام الوطنية.

وكشفت مذكرة داخلية، من مركز "بروكينغز" إلى أنهم طلبوا بعد ذلك الحصول على تبرعات من "لينار" بقيمة 100 ألف دولار، وذلك في عام 2014.

وتقوم جماعات الضغط بعمليات نيابة عن شركات كبرى، أو دول أجنبية، مشيرة إلى أن الترتيبات ذاتها موجودة، لدى عدد من مراكز البحث، التي عادة ما تقدم نفسها على أنها جامعات دون طلاب.

وإضافة إلى التورط في قضايا بيع السلاح للدول الأجنبية، والتجارة الدولية، وإدارة الطرق السريعة، ومشاريع التطوير السكني، أصبحت "ثينك تانكس" وبشكل متزايد، عربات تستخدمها الشركات في حملات التأثير والترويج.

وفي هذا الإطار، قالت النائبة الديمقراطية عن ماساشوسيتس، والناقدة لعمل هذه المراكز، السيناتور إليزابيث وارن " الشركات العملاقة التي توصلت إلى طريقة لإنفاق عشرات الملايين من الدولارات إن اقتضى الأمر، للتأثير في القرارات في واشنطن، وتستطيع الحصول على مليارات الدولارات".

انتعاش مراكز البحث

وشهدت العاصمة الأمريكية انتشارًا كبيرا لمراكز البحث والمعاهد، بعضها ذو أهداف ضيقة، ومرتبط بصناعات محددة، وشهدت الأسماء المعروفة نموًا واسعًا، فقد تضاعفت ميزانية (بروكينغز) في العقد الماضي إلى 100 مليون دولار، أما مركز البحث (أمريكان إنتربرايز) فينفق 80 مليون دولار على الأقل لبناء مركز جديد له في واشنطن، وليس بعيدًا عن برج المركز للدراسات الإستراتيجية والدولية، الذي أنشئ بميزانية 100 مليون دولار.

وتشير المعلومات إلى أن التحول في عمل هذه المؤسسات بدأ عن طريق مراكز غير ربحية، بسبب الضغط الذي يمارسه المتبرعون عليها للوفاء بأهداف عامة، رغم أن الضغط يهدد مكانتها بصفتها مراكز بحث، يتركز دورها على التوسط في النقاش الدائر في الكونغرس والبيت الأبيض والإعلام.

وتتساءل المديرة الإدارية لمعهد "بروكينغز" كيمبرلي تشيرتشز "أليس من الأفضل العودة إلى الجيل العظيم من المحسنين في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث كانوا يقولون، هذه مليون دولار أنفقها كيفما تشاء".

مراكز البحث تنكر التهم

ويرفض مديرو  مراكز البحوث الاتهامات الموجهة إليهم بأنهم أدوات تستخدمها الشركات، ويقولون إنهم يتعاونون مع المانحين، الذين يدافعون عن الأهداف ذاتها، مثل دعم المدن التي تحتاج إلى التطوير الاقتصادي.

وفي هذا السياق، قال نائب مدير معهد "بروكينغز" مارتن إنديك "لا نتنازل عن كرامتنا، نحافظ على قيمنا الرئيسة، ونوعية بحثنا، واستقلالنا، وكذلك تأثيرنا".

ولا تشير أغلبية الأبحاث التي يصدرها معهد "بروكينغز"، إلى أثر للمانحين، ولكنها توضح النفع الذي تحصل عليه الشركات، خاصة عندما يقدم باحثون في مراكز البحث شهادات أمام الكونغرس، أو يتحدثون في مناسبات، لا تكون لدى المشاهد العام فكرة عن العلاقة المالية بين الباحثين والشركات الربحية، التي عينتهم مستشارين أو جماعات ضغط، أو الدعم الذي تقدمه الشركات لمراكز البحث.

ووفقًا لما قاله مركز "نيو إنغلاند"، للتحقيق الصحفي عن عمل مراكز البحث، فإن هناك أدلة على مناقشة بعض مراكز البحث التقارير والوثائق والنتيجة النهائية، وعادة ما يتم مشاركة المتبرع بمسودات البحث، الذي يقوم بتشكيل الرؤية النهائية للتقرير.

ويوضح المركز أن "الجهات المانحة تقوم بوضع الخطوط العامة للبحث العلمي، وطرق استخدامه، على أنه جزء من جهود الترويج للشركة، كما فعل (بروكينغز) مع بنك (جي بي مورغان)، الذي يعد من أكبر المانحين للمركز، وتبرع له بقيمة 15.5 مليون دولار".

بالمقابل يقول بيل غودفيلو، المدير التنفيذي لمركز السياسات الدولية في واشنطن إن "أهل مراكز البحث مثل فاعلي الخير، لا يمكن شراؤهم مثل البقية في الطبقة السياسية".

لكن غودفيلو يستدرك قائلًا "الغريب القول بعدم وجود تأثير للمانحين، والخطورة هي أن عالم مراكز البحث تم إفساده، كالعالم السياسي، وهذا أمر مثير لقلق الجميع".

ويرى عدد من مديري مراكز بحثية مثل "بروكينغز"، ومركز الدراسات الإستراتيجية والدولية، وغيرهما من مراكز البحث، أن لديهم نظامًا يؤكد البعد العلمي والأكاديمي للأبحاث الصادرة عنهم، حيث قال المدير التنفيذي في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية جون هامر "نؤمن بقوة قدرتنا على البحث عن حلول للمشكلات المعقدة في بلادنا المعقدة".

تحقيق "ديمقراطي"

وتقوم مجموعة من الديمقراطيين، ممن يشغلون مناصب نيابة عامة، بالتحقيق فيما إذا كانت شركة "إكسون موبيل" تعاونت مع مراكز بحث في العقود الماضية، من أجل التغطية على أثر التنقيب عن الزيت الصخري وعلاقته بالبيئة، من خلال إعداد تقارير علمية، تجهض نظريات علمية لا توافق عليها الشركة.

وعلى الرغم من ذلك، فإن الباحثين في مراكز البحث يرون تأثير الشركات بوضوح، حيث قالت راشيل ستول، الزميلة البارزة في معهد "ستمسون" في واشنطن "إن شركة مانحة حققت معها عندما حاولت الحصول على دعم مالي لبحث حول الاستخدام العسكري للطائرات دون طيار، وسألتها الشركة عن ما ستكتبه حول هذه الطائرات، وهل هي سيئة أم لا"، وقالت لها "نحن لسنا معنيين بتمويل من يعدون الطائرات دون طيار أمرًا سيئًا".

تسهيل خدمات

وتكشف الوثائق عن أن مفاوضات معهد "بروكينغز" تحتوي على مناقشات، ورسائل إلكترونية، ومذكرات عن لقاءات، واستشارات، تؤكد المعلومات الموجودة في الملفات التي يحتفظ بها المعهد عن المانحين والمنافع التي ستقدمها لهم، وتحتوي الملفات على الأولويات التي تركز عليها الشركات، وقائمة بالتبرعات.

وحينما أرادت شركة "جنرال إلكتريك" تمويل شبكة من السكك الحديدية وبرامج للطاقة النظيفة، نجح مركز "بروكينغز" في توفير فرصة لمديريها من أجل الظهور إلى جانب مسؤولين في البيت الأبيض والكونغرس في فعاليات ركزت على هذه الصناعات.

وعندما قرر بنك "كي كي آر" إطلاق صندوق تمويل خاص عام 2010 للاستثمار في العقارات والبنية التحتية، تبرع بمبلغ 450 ألف دولار لـ"بروكينغز"، وذلك من أجل ترتيب المعهد لقاءات مع قادة في فيلادلفيا وديترويت، إذ كانت الشركة تخطط للقيام بمشاريع إسكان.

وقام المعهد بإصدار تقرير وضعته الشركة على موقعها للترويج لأحد مشاريع الشركة في نيوجرسي.

مشاريع ربحية مشتركة

ويدير المعهد وشركة "لينر" مشروعا مشتركا لإنشاء مركز لبناء السفن في سان فرانسيسكو، رغم المعارضة الشديدة له، وقال نائب مدير المركز إن التعاون مع شركة "لينر"، جاء بسبب التشارك في الأهداف التي تعمل على إعادة أعمار المدن.

أما عن علاقة معهد "برزكينغز" مع بنك "جي بي مورغان"، فقد عرض البنك في عام  2011 على المعهد تبرعًا كبيرًا، من أجل تصميم حملة تحت عنوان "مبادرة المدن العالمية"، وذلك في مشروع مشترك بين "بروكينغز"، والبنك.

واستند المشروع إلى التعاون المشترك بين المعهد والبنك، وزعم بروكينغز أنه يريد تعزيز النمو الاقتصادي في المدن من خلال تشجيع التجارة الدولية، في حين يريد "جي بي مورغان" الحصول على أعمال جديدة من خلال تقديم قروض للشركات التي تعمل في هذا المجال.

وتؤكد وثائق تواصل "بروكينغز" مع "جي بي مورغان" في هذا الشأن، إلا أن المعهد قال "لن نتواصل بشكل مباشر أو غير مباشر مع جي بي مورغان لمساعدته في الحصول على أعمال".

وقال السيد انديك وعدد من المديرين في "جي بي مورغان"، إن المؤسسة البحثية وافقت على هذا المشروع لأنه يستحق فقط.

وصرح بيتر شير، رئيس برنامج المسؤولية الاجتماعية للشركات في بنك "جي بي مورغان"، أن المبادرة كانت من أجل تنامي الاقتصاد، ونحن فخورون بها، لافتًا إلى أن المبادرة كان لها تأثير كبير في وجود أكثر من 30 مدينة.

وفي الوقت نفسه، تشير المئات من الوثائق إلى أن هناك عددًا كبيرًا من الموظفين في معهد "بروكينغز" كانوا يستعدون لعقد اجتماعات كبرى مع كبار التنفيذيين في البنك.

هيتاشي اليابانية والرشاوى

وفي الإطار نفسه، يشير التقرير الذي نشرته "نيويورك تايمز"، إلى علاقة شركة "هيتاشي" مع "بروكينغز"، لافتًا إلى أنها كانت واحدة من المتبرعين الكبار، إذ قدمت للمركز حوالي  1.8 مليون دولار خلال العقد الماضي، وقام المعهد بمراجعة إستراتيجية البيع والتسويق للشركة الموجهة نحو الولايات المتحدة، ونظم المركز مناسبات شاركت فيها شخصيات بارزة من إدارة أوباما.

ويدافع المسؤولون في المعهد عن موقفهم، ويقولون إنهم لم يقوموا بعمليات ضغط نيابة عن "هيتاشي"، وقدموا تقارير توضح موقفهم الذي يتحدى وضع الشركة، إذ قالت تشيرتشز "مساعدة شركة لتحقيق أجندة ربحية ليست بأي حال على جدول أعمالنا.

وتكشف الوثائق أيضًا، أن المجلس الأطلسي، الذي يركز على قضايا العلاقات الخارجية، تعاون مع "فيديكس"، وزادت ميزانية المجلس من مليوني دولار إلى 21 مليون دولار خلال العقد الماضي، كما قالت الصحيفة إنه قبل 6 أشهر من صدور تقرير المجلس، فإنه خطط مع "فيديكس" لاستخدامه كوسيلة ضغط، حيث جاء في المسودة، التي كانت من صفحتين، قبل أشهر من صدور التقرير إن "تأثير التقرير سيُضخّم من خلال مناسبة كبيرة"، وهي "حفلة عامة لنشر التقرير، يحضرها أعضاء في الكونغرس من اللجان ذات الصلة".

وحينما صدر التقرير في نهاية عام 2014، عكست نتيجته ما كانت تطالب به "فيديكس"، وهو تخفيف التعرفة للتجارة عبر الأطلسي، والسماح بالشحن المجاني.

تغيير سياسة أوباما

وكانت شركة "جنرال أتوميكس"، المتخصصة في صناعة الطائرات دون طيار، تعاني في الفترة الأخيرة من مشكلة تراجع في مبيعاتها، خاصة أن حربي العراق وأفغانستان تراجعت أهميتهما، ولهذا كانت الشركة تدفع باتجاه تغيير سياسة إدارة باراك أوباما؛ لفتح الباب أمامها لبيع الطائرات لدول أخرى.

وقال مدير نظام الطائرات في الشركة فرانك بيس "عندما تهبط الميزانيات في الولايات المتحدة نأمل بأن نكون قادرين على تصدير المزيد"، وفي ذلك الوقت طلبت الشركة من مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية المساعدة، وقدمت له المال ليعد دراسة عن سياسة الطائرات دون طيار، لافتًا إلى أن مساهمة "جنرال أتوميكس" لم تكن كبيرة للمركز، مقارنة مع تبرعات شركات تصنيع سلاح عملاقة، مثل "لوكهيد مارتن" و"بوينغ"، اللتين تبرعتا منذ عام 2010 بحوالي 77 مليون دولار لعدد من مراكز البحث.

الطائرات بدون طيار

وقام المركز  بتنظيم لقاء في مقره بين ممثلين عن الشركة، حضره مسؤولون من البحرية، وسلاح الجو، والمارينز، وخفر السواحل، ووزارة الخارجية، ومكتب وزير الدفاع، وكتب أحد كبار الباحثين في المركز، وهو صمويل برانين، إلى آرون جوست، أحد مسؤولي وزارة الخارجية، والمسؤول عن تصدير طائرات دون طيار، قائلا "ستكون سلسلة اللقاءات متميزة وواسعة؛ لأنها تجمع بين الأطراف المعنية".

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إن المركز عقد اجتماعات مع مسؤولين في وزارة الدفاع، ومن الكونغرس؛ للدفع باتجاه تطبيق التوصيات التي جاءت في البحث.

ولفتت الصحيفة، إلى أن البحث الذي قام به المركز، ساهم في عقدها صفقة كبيرة من أجل تصدير طائرات دون طيار إلى دولة الإمارات المتحدة.

وفي فبراير 2013، أعلنت دولة الإمارات العربية المتحدة، على هامش معرض دفاعي لشركات بيع الأسلحة أقيم في أبو ظبي، إبرام صفقات بـ1,42 مليار دولار شملت عقوداً لشراء مركبات عسكرية أميركية بقيمة 381 مليون دولار وصواريخ، إضافة إلى طائرات من دون طيار.

خبر الصفقة تلك، كان له وقع مختلف هذه المرة، وركّز بعض الصحفيين الأمريكيين على تفصيل محدد، هو احتواء الصفقة على طائرات من دون طيّار من صنع شركة "أتوميكس" الأمريكية، وبذلك تكون تلك الصفقة أول عقد طائرات من دون طيار تبرمه الشركة الأمريكية مع دولة في منطقة الشرق الأوسط.

"هكذا تصبح الامارات العربية أول دولة من خارج حلف شماليّ الأطلسي تمتلك طائرات دون طيار"، علّقت معظم المقالات الأمريكية.

وأوضحت شركة السلاح الأمريكية أن الطائرات التي شملتها الصفقة هي "لأغراض استطلاعية ولا تحمل أسلحة".

وقالت الصحيفة الأمريكية في ختام تقريرها، إن هناك العديد من الصفقات التي نجحت كبرى الشركات العالمية في إبرامها من خلال التعاون الذي تسهم به مراكز الأبحاث، مقابل عائدات مالية كبرى تحصل عليها في شكل تبرعات من تلك الشركات.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com