خطوط الفتوى الساخنة.. تجربة الإمارات الفريدة في حماية المجتمع من مفاهيم الدين المغلوطة
خطوط الفتوى الساخنة.. تجربة الإمارات الفريدة في حماية المجتمع من مفاهيم الدين المغلوطةخطوط الفتوى الساخنة.. تجربة الإمارات الفريدة في حماية المجتمع من مفاهيم الدين المغلوطة

خطوط الفتوى الساخنة.. تجربة الإمارات الفريدة في حماية المجتمع من مفاهيم الدين المغلوطة

في شارع مزدحم بالعاصمة الإماراتية أبوظبي مطل على شاطئ الخليج العربي، يقع المبنى الذي يضم مكتب الخط الساخن للفتوى، حيث يستقبل علماء من الجنسين عشرات المكالمات، على مدار ثماني ساعات يوميًا في خمسة أيام في الأسبوع.

وتقول صحيفة "الغارديان" البريطانية التي نشرت تقريرا أعدته الصحفية المقيمة في أبوظبي حميدة غفور عن مركز الإفتاء "إنه الوحيد من نوعه في الشرق الأوسط؛ حيث يتم التعاقد مع سيدات لديهن مؤهلات عليا معتمدة من قبل الدولة؛ لإصدار الأحكام الدينية، وتعمل جميع السيدات في جميع أنحاء القاعة مع نظرائهن من الرجال، حيث يتواجد 47 مفتيا يقومون بنفس المهمة".

وفي مكتب الخط الساخن للفتوى، تشعر وكأنك في القطب الشمالي، لاسيما في ظل تواجد مكيف الهواء القوي، داخل غرفة صغيرة، إلا أن العلماء في المركز يؤكدون أنهم ينتظرون الانتقال إلى مكتب أكبر بني لهذا الغرض.

وترد الشيخة نعيمة واثنتين من السيدات على استفسارات النساء، وأحيانًا الرجال، من جميع أنواع الخلفيات؛ الغني والفقير، والكبير والصغير في أقسام الدين المختلفة التي تهم المسلم.

وتحظى الشيخة نعيمة، وهي باحثة من المغرب تبلغ 40 عاما، بالاحترام داخل مركز الفتوى، حيث تعمل هناك منذ 8 سنوات، تضع في أصابعها الحناء البرتقالية اللون، وترتدي عباءة ووشاح رأس أسود اللون، وهو الزي المعتاد للنساء في دول الخليج العربي.

وترفع الشيخة نعيمة كأسها لتأخذ رشفة من الماء، إلا أن الهاتف الرمادي الكبير على مكتبها يومض باللون الأحمر مرة أخرى، الساعة التاسعة صباحًا وبالرغم من ذلك ردت على 11 اتصالا حتى الآن.

نماذج من المكالمات

وفي أحد نماذج الاتصالات التي ترد المركز ترد الشيخة نعيمة على الهاتف بصوت هادئ "السلام عليكم"، في حين تقول لها المرأة على الخط الآخر إنها انجبت مرتين وأن كلا الطفلين ماتا، والآن هي حامل للمرة الثالثة، وقال لها الطبيب إن الجنين يظهر علامات ضعف كبيرة واحتمال موته وارد.

وتريد المرأة المتصلة أن تعرف إذا كان الإسلام يسمح لها بإجراء عملية إجهاض في تلك الحالة أم لا، حيث قالت لها الشيخة نعيمة "إذا كان الطفل مصابا بمضاعفات كبيرة وربما يموت فعليك بإجراء عملية الإجهاض، عليك استشارة الطبيب المعالج، فالدين لا يتعارض مع الطب".

وأوضحت الشيخة نعيمة أنه يجوز إجراء الإجهاض في ظروف معينة، وهي في غضون 120 يومًا من الحمل، أو 17 أسبوعًا، وإذا كان الأطباء يرون أن الطفل سيموت فهذا يعطي للأم العذر في إجراء عملية الإجهاض.

وتقول الشيخة نعيمة إن ما تقوم به هو جزء من عملها في مكتب الخط الساخن للفتوى، وهو مكتب صغير في الدور الثامن داخل وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف في أبوظبي، والمعروف بمكتب الأوقاف

وأشارت إلى أن الأسئلة المتكررة في هذا الصباح الذي زارت فيه الصحيفة البريطانية هذا المبنى، كانت تدور حول "هل يجوز عمل الرجل والمرأة سويًا"، و"هل أصوم شهر رمضان إذا كانت لدي الدورة الشهرية".

إعادة التوازن في العمل بين الرجل والمرأة

وترى الشيخة نعيمة، أن النساء في مركز الخط الساخن للفتوى يحاولن إعادة التوازن في العمل بين الرجل والمرأة، حيث أنه من المعتاد سيطرة الرجال على الوظائف في العالم العربي، مضيفة "نحن نعلم أنه من غير المألوف ذكر امرأة على أنها مفتية أو شيخة، لأن هذا العمل عادة مقتصر على الرجال".

وتقوم الشيخة نعيمة وزميلتها الشيخة راضية بالرد على حوالي 200 مكالمة في اليوم، بالإضافة إلى رسائل البريد الإلكتروني والرسائل القصيرة على الهاتف الجوال.

وأسهم نجاح فكرة الخط الساخن في إرسال 6 نساء شابات من الإمارات إلى جامعة محمد الخامس في المغرب؛ للحصول على منح دراسية تؤهلهن ليصبحن مفتيات.

وتصف مريم الزايدي إحدى الخريجات طبيعة مهمة عملها في المركز بالقول "نحن نحاول تعليم الناس الإسلام الحقيقي"، مشيرة إلى أن الدولة تأخذ التعليم الديني للسيدات على محمل الجد، مضيفة "حصلنا على المنح الدراسية اللازمة، ولم ندفع فيها أي شيء".

تشويه الفتوى

وتبيّن الصحيفة البريطانية، أنه حينما أحرقت رواية "آيات شيطانية" للكاتب سلمان رشدي، في جميع أنحاء العالم الإسلامي عام 1989، بالإضافة إلى ترجمتها اليابانية في طوكيو، بات مصطلح "فتوى" مرتبطًا في بعض الأجزاء من العالم الغربي بأنه إصدار حكم الإعدام، بينما في الواقع، إن الفتوى هي الرأي القانوني الذي يساعد المسلم الملتزم على عيش حياة أخلاقية.

وأشارت الصحيفة إلى أن مركز الفتوى في أبوظبي ليس جزءًا من النظام القانوني في الإمارات، والتي تقوم على مبادئ المذهب المالكي المعتدل في الفقه السني، مع عناصر مختلفة من الأنظمة القانونية الأوروبية، كما أن هناك المحاكم الشرعية والمحاكم المدنية التي تعمل بشكل متواز، وتغطي مناطق مختلفة من القانون، وفي بعض الحالات، قد تكون استشارة المفتي أوالمفتية، ولكن القاضي فقط هو الذي يصدر حكمًا ملزمًا من الناحية القانونية.

ويقول جوستين ستيرنز، وهو أستاذ مشارك أمريكي ورئيس برنامج مفترق الطرق للدراسات العربية في جامعة نيويورك بأبوظبي، إن معظم أسئلة المسلمين تقوم في إطار علاقتهم مع الله، وقدرتهم على الوفاء بتلك العلاقة.

الجهة الوحيدة للفتوى

وقالت الصحيفة إن الأوقاف بشكل فعال، هي السلطة النهائية في جميع الأمور المتعلقة بالإسلام، والعديد من البلدان لديها المفتي الرسمي أو مركز الفتوى، بحيث لا يسمح لأحد آخر في البلاد إصدار هذه الأحكام، لافتة إلى أن هناك لجنة من علماء الدين تقرر مضمون خطبة الجمعة إلى أن الإرشاد في كل مسجد من قبل الأئمة الذين يتقاضون جميعا رواتب من الدولة، ويمنع الخروج عن الموضوع الرسمي، بحيث يجب احترام الأقليات الدينية بما في ذلك المسيحيين والنساء.

وتنقل "الغارديان" عن الداعية حبيب علي الجفري، رئيس ومؤسس مؤسسة طابة التي تمولها الدولة في أبوظبي، قوله إن الفتوى عبارة عن السيطرة على مسائل الإيمان في العالم الإسلامي، لافتًا إلى أنه على مدى 30 عامًا الماضية وجدنا العديد من المظالم السياسية مع عدد من الأئمة في البلدان الإسلامية.

ويضيف الجفري في حديثه للصحيفة البريطانية "كان لدينا نفس المشكلة مع الفتاوى"، عندما نجتمع في مكتبة المؤسسة كانت هناك أقاويل متناقضة، غير رسمية، ويمكن للناس الحصول على الأحكام في أي مكان، ولتحقيق السيطرة والتوازن بدأنا تبسيط العملية، وجلب المفتين النساء كان جزءا من هذه العملية".

وقالت الصحيفة البريطانية إن الجفري يعرف أن وسائل الاتصال الحديثة يمكنها أن تنشر الكراهية، لاسيما وأن لديه 3.5 مليون متابع على موقع "تويتر"، كما أن أحد أعضاء "داعش" هدده بالقتل.

وكان من بين النساء اللاتي تم اختيارهن من المغرب للعمل في المركز بالإمارات، الشيختان راضية ونعيمة، حيث أكدت الشيخة راضية أنها تعرضت للعديد من الأسئلة خلال المقابلة.

وحصلت الشيخة راضية على شهادة الدكتوراه في العلوم الإسلامية من جامعة محمد الخامس ومتخصصة في الفقه، أما الشيخة نعيمة فحاصلة على شهادة الدكتوراه من جامعة الحسن الثاني في الدار البيضاء، وقالت إنها نشأت في أسرة متدينة.

فتوى المرأة في عهد النبي

وقال محمد أكرم الندوي، وهو باحث إسلامي شهير يعيش في أكسفورد، إن المفتيات السيدات أمر غير متعارف عليه في العهد الحديث، إلا أن السيدات في عهد النبي محمد عليه الصلاة والسلام، قاموا بإصدار أحكام دينية، وبلغ عددهن 130 امرأة، وكان أبرزهن السيدة عائشة زوجة الرسول.

وأشارت الصحيفة البريطانية إلى أن الفقهاء هم أول من تصدى لحالات الجمود والتعصب والتطرف والإرهاب، وبذلك يتجلى الفقه الإسلامي- ومن ثم الخطاب الديني- بالقدرة على مواكبة مستجدات الحياة، وبالشفافية والتيسير والتسامح والحكمة، وإن مكامن المشكلة هي الجهل بمقاصد الشرع الحنيف وحكمة التشريع، كما يظهر في التنظيمات السرية ودوائر العنف والتطرف التي تنشأ عنها.

وأشارت الصحيفة إلى أن عمل الشيخة نعيمة لم يقتصر فقط على مركز الفتوى، حيث تقوم بإلقاء محاضرات في أحد مساجد أبوظبي، وتلقين الدروس الدينية للسيدات، حيث يتراوح معدل أعمار السيدات اللاتي يتواجدن في تلك الدروس ما بين 30 و40 عامًا، ومعظمهن من جنسيات عربية مختلفة تتنوع ما بين المغرب والإمارات وسوريا والسعودية وفلسطين، ويقمن بالنقاش والتساؤل حول أمور الدين الإسلامي المختلفة.

واستقبل الخط المجاني للإفتاء التابع للهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف ما يزيد على 1.8 مليون فتوى حتى الآن، من خلال الخطوط الهاتفية المخصصة لذلك باللغات الثلاث العربية والإنجليزية والأوردو، بالإضافة إلى 280  ألف فتوى عبر الرسائل النصية إلى الخطوط المخصصة للرد على فتاوى النساء والخط الساخن.

وافتتح الخط الساخن للفتوى في عام 2007، وفي العام التالي قام فريق من العلماء بالسفر إلى المغرب؛ لتوظيف خبيرات من المغرب للعمل في المركز، لاسيما وأن المغرب يتبع المذهب المالكي أيضًا.

ونجح المركز الرسمي للإفتاء بأبوظبي في ضبط الفتوى وتوحيد مرجعيتها، حيث يناوب فيه مجموعة من العلماء المؤهلين في الإفتاء من الذكور والإناث من "أهل العلم الموثوقين الذين يرسخون الوسطيةَ والاعتدال في المجتمع عبر الفتاوى الهاتفية وفتاوى الرسائل النصية والفتاوى الإلكترونية، فيما يعتمد أسلوب العمل في المركز الرسمي للإفتاء على طريقة متميزة في منهجيتها الشرعية وبرمجيتها الإلكترونية، فهو المرشد الأمين لاستفسارات الشرعية لجميع فئات المجتمع".

التأثير الخفي لسلوكيات المجتمع

ولاحظت الصحيفة البريطانية، أن الإفتاء ليس له سلطة قانونية أو سياسية، بل له تأثير خفي على سلوكيات المجتمع، ولم يقتصر الأمر على مراكز الفتوى فقط، بل يتم ذلك عبر دروس الدين في المساجد المختلفة.

وقال جاسم الشامسي، مواطن إماراتي 57 عامًا، وهو حافظ للقرآن الكريم، إنه قام بإعطاء درس في أحد الليالي  في مسجد الشيخ حمدان على مشارف أبوظبي، وشاهد المآذن وهي تتزين بالأضواء، والفتيات الصغيرات ينتظرن الحافلات التي تنقلهن إلى المنازل، عقب دروس القرآن الكريم.

وقال الشامسي في هذا الدرس إنه يجوز للرجل النظر إلى المرأة في بعض الأحيان، إذا كان في العمل أو المحكمة، ولكن أن تكون نظرة محترمة، ليس بها شهوة، كما نصح السيدات بعدم وضع المكياج وارتداء التنانير القصيرة والملابس الضيقة.

وتجلس النساء حول الشامسي في شكل نصف دائري، حيث بلغ عددهن 30 امرأة، غالبيتهن من كبار السن، إلا أن بعضهن أقل من 20 عامًا، وقال إحدى السيدات إنه ليست مفتيا، ولكن منحه رخصة "حافظ" يعطيه الحق للحديث عن بعض الأمور الدينية.

من جانبه، قال الشامسي إنه في بعض الأحيان يقترح هو الموضوعات، وفي أحيان أخرى تقوم الأوقاف باقتراح الموضوعات.

التحول في الإمارات

وتقع الإمارات العربية المتحدةعلى الجانب الجنوبي الشرقي من الخليج العربي،  بين إيران عبر ممر مائي ضيق إلى الشمال والمملكة العربية السعودية من الجنوب، وقبل نصف قرن، كان يعيش في  الدولة الخليجية مجتمع متجانس وقبائل متماسكة، وكان الناس يحاربون من أجل البقاء على قيد الحياة في ظل المناخ القوي، والأراضي الصالحة للزراعة ومياه الشرب الشحيحة ودرجات الحرارة في كثير من الأحيان تصل إلى 50.

ومع اكتشاف النفط في أواخر 1950 تغيرت البلاد جذريًا، حيث تجلس الإمارات العربية المتحدة على سابع أكبر احتياطيات نفطية مؤكدة في العالم، وتم توجيه الفوائض المالية من الثروة النفطية لتحويل المجتمع مرة واحدة من مجتمع يعتمد على التجارة والصيد إلى دولة ذات اقتصاد تركز حول التمويل والعقارات والسياحة.

دولة آمنة من التوتر والإرهاب

وحرص الحكام الذين توارثوا الحكم  على تشجيع المرأة الإماراتية للمشاركة في الحياة العامة، وشهد التمكين للمرأة في البلاد ذروته في فبراير الماضي، حيث تم تعيين 5  نساء في الحكومة الاتحادية.

وعلى الرغم من الجهود المبذولة لتحريك الاقتصاد بعيدًا عن الاعتماد على النفط، فإن الغالبية العظمى من إيرادات الحكومة، تأتي من قطاع النفط والغاز، وتسعى الإمارات لزيادة الاستثمارات الأجنبية وجلب العمال الأجانب لبناء اقتصاد ما بعد النفط.

وقالت الصحيفة البريطانية، إن الإمارات نجحت في أن تبقى بمعزل عن ثورات ما يسمى بالربيع العربي، وحافظوا على مجتمعهم منفتحا؛ فالمرأة الإماراتية يمكنها الذهاب إلى المدرسة والعمل خارج المنزل، كما أن تغطية شعرها ليس أمرًا إلزاميا بالرغم من أن غالبية النساء الإماراتيات يفعلن ذلك.

ولفتت الصحيفة إلى أن الإمارات لم تتعرض لأي هجمات إرهابية، باستثناء حادث وحيد في 1 ديسمبر 2014، وهو حادث مقتل امرأة أمريكية في أحد مراحيض مركز تجاري بجزيرة سياحية.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com