يتعرض إقليم كردستان العراق منذ أكثر من عامين، إلى ارتدادات قضائية بقرارات تُوصف بأنها "صادمة"، من المحكمة الاتحادية العليا، أعلى سلطة قضائية في البلاد.
يأتي ذلك في وقتٍ مازالت فيه الأزمات المالية والاقتصادية والسياسية التي انطلقت أولى شرارتها، العام 2014، مع ظهور تنظيم داعش، "تخنق" الإقليم الكردي، حتى أصبح عاجرًا عن دفع رواتب موظفيه، مع تعطل مشاريعه الخدمية والاستثمارية، وتعرّض الحياة اليومية فيه إلى حالة أشبه بالشلل على مختلف المجالات والمستويات.
لم تكتفِ المحكمة بإصدار قرار بطلان قانون النفط والغاز في كردستان، العام 2022، الذي شرّعته حكومة الإقليم، العام 2007، وأتاح لها التعاقد مع شركات أجنبية لاستخراج وبيع النفط من حقول داخل محافظات: أربيل، والسليمانية، ودهوك، بالإضافة لاستخراجه من مناطق متنازع عليها في محافظات: نينوى، وكركوك، وديالى، وصلاح الدين، دون العودة إلى بغداد، وإنما استمرت المحكمة في تضيق الزاوية على الإقليم أكثر، عبر جُملة قرارات وُصفت بأنها محاولات تدخلات سياسية لـ"تصغير وتحجيم الإقليم"، تمهيدًا لإلغاء كيانه، وجعله مثل أي وحدة إدارية تابعة للحكومة العراقية.
ومن أبرز قرارات المحكمة الاتحادية ضد الإقليم، ما صدر عنها، في شباط/فبراير الماضي، حول قانون انتخابات برلمان كردستان رقم (1) لسنة 1992 المعدلة والخاصة بعدد أعضاء البرلمان، وإلغاء مقاعد كوتا الأقليات، وتقليص عدد المقاعد من 111 مقعدًا الى 100، والطعن في المادة (9) من القانون حول تغيير جغرافيا انتخابات كردستان من دائرة واحدة إلى متعددة الدوائر، ولا تقل عن 4 دوائر، وكذلك سجل الناخبين وقائمة المرشحين، بالإضافة إلى قرار توطين رواتب موظفيها وإلزام الحكومة الاتحادية في بغداد بدفع رواتب موظفي الإقليم بشكل مباشر كحال الموظفين العراقيين الآخرين.
ويقر مراقبون بأن تلك القرارات ستؤثر على مكانة ومصير الإقليم الكردي، وستكون لها تأثيرات على المستقبل السياسي لكردستان، فضلًا عن أن قرارات المحكمة الاتحادية هي امتداد لمجموعة قرارات وقوانين وخطوات اتخذت سابقًا بهدف تحجيم وتقسيم كردستان، وإلغاء كيان الإقليم السياسي.
ومن المحتمل أن تُفقد هذه القرارات برلمان كردستان دوره التشريعي، وأن تمنعه من إصدار أي قانون أساس مصيري في الإقليم، خاصة أن للمحكمة الاتحادية الحق في إلغاء أي قانون لا يتطابق مع توجهات الحكومة العراقية أو الأطراف المسيطرة عليها.
ووصفت حكومة كردستان، والحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يُسيطر على أغلب المناصب الحساسة فيها، لمرات عدة، قرارات المحكمة العراقية بأنها "عدائية" ضد حقوق مواطني الإقليم ومستحقاتهم المالية الدستورية.
وقال المتحدث باسم الحكومة الكردية، بيشوا هورامي، في بيان: "هناك بعض العنصريين يريدون التعامل مع الإقليم كمحافظة وأقل من ذلك"، معتبرًا "ما تقوم به المحكمة الاتحادية اتجاه الإقليم غير دستوري".
وعلى المستوى الشعبي، فأغلب قرارات المحكمة الاتحادية العراقية مرحب بها في كردستان لأسباب عديدة.
وحدد الأكاديمي والمحلل السياسي الكردي، الدكتور عدالت عبد الله، أبرز تلك الأسباب، ومنها أن قرارات المحكمة تصب في صالح طبقة الموظفين في المجتمع الكردي، وتُعجل الإجراءات القانونية والفنية لإجراء انتخابات كردستان، وإنهاء الفراغ التشريعي في الإقليم، وتُذكر حكومتي بغداد وأربيل بحقيقة دامغة هي أن ثمة سلطة أعلى في البلد بإمكانها حسم الخلافات السياسية والإدارية التي لا تستند إلى الدستور، فضلًا عن إعادة ضبط شروط بناء النظام الاتحادي في البلد، والذي ربما ستفقد فيه حكومة كردستان وفقًا للمادة (110) من الدستور بعض صلاحياتها التي كانت تمارسها كشبه دولة في الإقليم.
أما على الصعيد السياسي، فلا ينكر الأكاديمي الكردي وجود انتقادات موجهة للمحكمة من قبل بعض الأحزاب الكردية، وذلك بالحديث عن خروج المحكمة عن أطر صلاحياتها الدستورية.
ويضيف، في تصريح لـ"إرم نيوز"، أنه "عمليًا ليس هناك مجال دستوري وقانوني لجعل هذه الانتقادات مجدية"، لأنه "ليس هناك إجماع سياسي في الإقليم تجاه الجوانب السلبية لقرارات المحكمة وتداعياتها".
يرى الخبير القانوني، الدكتور محمد السامرائي، أن قرارات المحكمة الاتحادية الأخيرة بشأن إقليم كردستان تتفق مع روح الدستور، ومع مبادئ النظام الاتحادي الديمقراطي، ونابعة من سلطة القضاء الدستوري في التفسير الدستوري المنشئ للأحكام.
وعن احتمالية أن تُمهد قرارات المحكمة الطريق لإلغاء كيان الإقليم، كما "تدّعي" بعض الأطراف الكردية، قال السامرائي، في تصريح لـ"إرم نيوز": "نحن أمام كيان نص عليه الدستور، وتعامل معه ابتداءً من تاريخ تشريع الدستور على أنه كيان دستوري وإقليم قائم وواقع حال لا يلغى إلا بالأطر الدستورية، والقرار يكون بيد شعب كردستان وبرلمان الإقليم حصرًا".
وخلافًا لرأي الخبير القانوني، يصف العضو البارز في الحزب الديمقراطي الكردستاني، وفا محمد كريم، قرارات المحكمة الاتحادية بأنها "محاولات" لتحجيم وتصغير وإضعاف كيان كردستان، وهي ضد الصلاحيات المعطاة للإقليم ضمن المادة 121 في أحقيته باستخدام صلاحياته التشريعية والتنفيذية والقضائية، على حد تعبيره.
ولا يقف كريم عند هذا الحد فحسب، بل يرفعُ من سقف انتقاداته بالقول إن هناك "مؤامرات" تُحاك في غرف سرية من الأحزاب التي لديها فصائل وجماعات مسلحة، وتقصف الإقليم بين الحين والآخر بصواريخ وطائرات مسيّرة، وفي ذات الوقت لديها ثقل برلماني وأصوات سياسية تُحاول عن طريق قرارات مجلس النواب أو المحكمة الاتحادية أو وزارة المالية الاتحادية إضعاف الاقليم وتصغيره وانهائه، مؤكدًا أن "المحاولات مازالت مستمرة"، لكن هناك دعمًا أمميًا ودوليًا للحفاظ على كيان كردستان.
وفي العام 2021، وبعد انتهاء انتخابات الدورة الخامسة لمجلس النواب العراقي وإعلان نتائجها، تحالف الحزب الديمقراطي الكردستاني مع زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر إلى جانب أطراف سنية، وشكلوا تحالف "إنقاد وطن" الذي استطاع أن يشغل نحو 175 مقعدًا من أصل 329 مقعدًا في البرلمان العراقي لتشكيل حكومة أغلبية سياسية ضدّ الإطار التنسيقي الشيعي، إلا أن كل محاولاتهم باءت بالفشل ما دفع الصدر إلى الانسحاب من العملية السياسية برمتها.
ومع بقاء نحو عام ونصف على الانتخابات البرلمانية العراقية المقبلة، يرى مراقبون أن قرارات المحكمة الاتحادية ما هي إلا ورقة ضغط سياسية يُمارسها الإطار التنسيقي الذي يُسيطر على أبرز مقاليد الحكم في بغداد ضد الحزب الديمقراطي الكردستاني لمنعه أو خوفًا من تحالفه مُجددًا مع غريمه الشيعي مقتدى الصدر.
ولا يختلف رأي عضو الديمقراطي الكردستاني مع ما ذهب إليه المراقبون، إذ يؤكد أن قرارات المحكمة الاتحادية جاءت بعد دخول حزبه في التحالف الثلاثي مع الصدر، "وما هي إلا ضغوط سياسية تُمارس ضدّنا".
على الجهة المقابلة، يظهر عضو البرلمان العراقي عن الإطار التنسيقي، عقيل الفتلاوي، مُدافعًا شرسًا عن قرارات المحكمة الاتحادية، ويصفها بـ"المقبولة" لدى الجميع.
وقال الفتلاوي: "علينا أن نمتثل لتلك القرارات حتى يأخذ كيان الدولة مساره الطبيعي"، مُحذرًا أن "التشكيك في قرارات المحكمة واتهامها بأنها ذات اتجاه سياسي هو بداية حقيقية لهدم أركان الدولة المتكون من 3 أركان، هي: السلطات القضائية، والتشريعية، والتنفيذية".
ويبدو الأمر مختلفًا من وجهة نظر أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، الدكتور طارق الزبيدي، إذ يستبعد وجود أي عوامل مشتركة بين ما صدر عن المحكمة الاتحادية من قرارات ضد الإقليم من جانبٍ، مع تحديد شكل التحالفات السياسية مستقبلًا من جانب آخر.
ويرى الزبيدي أن "قادة الإطار يحاولون تهدئة الصراع مع الإقليم خوفًا من غريمهم السياسي التيار الصدري، باعتبار أن وجود الحكومة الحالية مرتبط بوجود الأكراد والسُنة فيها، ومن مصلحة الإطار أن يخفف الصراع مع كردستان والسنة على حدٍ سواء".
ومع ذلك، لا ينفي الأكاديمي العراقي، في حديثه لـ"إرم نيوز"، من أن بعض "قرارات" المحكمة الاتحادية تصبّ في مصلحة الإطار، وإن كانت خالية من أي تأثير سياسي"، متوقعًا اشتداد وتأزم العلاقات الثنائية وزيادة توترها وتشجنها بين كردستان والحكومة الاتحادية مستقبلًا.