حلب "الشهباء" من بياض الرخام إلى سواد الموت
حلب "الشهباء" من بياض الرخام إلى سواد الموتحلب "الشهباء" من بياض الرخام إلى سواد الموت

حلب "الشهباء" من بياض الرخام إلى سواد الموت

مع تداول صور الدمار الهائل في حلب السورية جراء القصف الذي طالها من قبل قوات النظام السوري والتنظيمات الأجنبية الموالية له، والطيران الروسي، يستذكر سكان المدينة ومحبوها تاريخها العريق والذي شهد غزوها مرارا وعانت من دمار متكرر إلا أنها نهضت من جديد بعد كل مرة.

وكانت حلب التي توصف بأنها أعرق مدن العالم، آمنة وسعيدة ومزدهرة، قبل أن تضحى اليوم جريحة وشبه مدمرة بالكامل، بعد حصار وقصف مكثّف للنظام السوري وحلفائه على الأحياء الشرقية بالمدينة التي تضم حلب القديمة، ما أسفر عن مقتل وجرح المئات ونزوح وتهجير الآلاف.

من بياض الرخام إلى سواد الموت

وتماما مثلما هو الحال بالنسبة لمعظم المدن القديمة، تختلف النظريات حول تسمية ونشأة حلب، غير أن الثابت هو أنّ المدينة ذكرت في العديد من المخطوطات والوثائق التاريخية القديمة، حتى أن البعض منها يقول إنها تعود إلى الألف الخامسة قبل الميلاد، كما تقول روايات أن نبي الله إبراهيم عليه السلام أقام بها.

ويعود اسمها إلى كلمة "حلبا" الآرامية وتعني "الأشهب"، وهذا ما يفسّر تسميتها بالعربية بـ"الشهباء"، إشارة إلى لون الرخام الأبيض المتواجد بكثرة في المنطقة.

وكانت إلى وقت غير بعيد "شهباء" يغلب عليها البياض، واسودّت اليوم، وتحوّل بياضها الناصع إلى حلكة قاتمة بفعل القصف، وفقدت إشعاعها حتى غدت مجرّد تقاطع لشوارع مقفرة، وأنقاض متراكمة تنبعث رائحة الموت من كلّ شبر فيها.

الخراب والدمار غيّبا جميع التفاصيل الجميلة والعريقة لمدينة يعتبرها المؤرّخون مهدا للحضارات.

وكما منحها موقعها الاستراتيجي مزايا كثيرة، جعلها أيضا عرضة لبعض الضربات؛ ففي أوقات السلم، كانت مدينة مزدهرة آمنة، لكنها في الأوقات العصيبة لطالما كانت أرضا متنازعا عليها.

وفي العام 1260 ميلادي، احتلت المدينة من قبل المغول وتم تدميرها بشكل شبه كامل وعلى عدة مراحل وشمل ذلك التدمير مسجدها الأموي الكبير، غير أنها ستزدهر إثر ذلك في عهد صلاح الدين الأيوبي وجزء من عهد الإمبراطورية العثمانية.

قطب اقتصادي

ولطالما كانت حلب مدينة غنية، فهي تمتلك موقعا استراتيجيا عند تقاطع الطرق التجارية، أي بين بادية الشام والبحر المتوسط وجبال الأناضول وضفاف نهر الفرات.

وكان لا بد لهذه التوليفة أن تمنحها مزيجا نادرا من الخصائص، أبرزها المناخ المعتدل والطبيعة الخضراء، والأهم أنها تشكّل محطة رئيسة في "طريق الحرير"، الشبكة القديمة لطرق التجارة بين آسيا وأوروبا.

وفي حلب كان يلتقي التجّار لتبادل المواد الأولية المتأتية من المناطق النائية في سوريا، أو المنتجات المستوردة، كما حظيت المنسوجات أيضا بمكانة محورية في اقتصاد المدينة.

وتشتهر المدينة بصناعة الصابون وخاصة "صابون الغار" الذي تعود أصوله إلى أكثر من 3500 سنة.. فهناك في حلب، تشكّلت ملامح أقدم صابونة في العالم، قبل أن تطمسها الحرب الراهنة وتعدم قطاعا له من الرمزية التاريخية ما يفوق بكثير إسهاماته في الناتج الإجمالي المحلي للبلاد على مدى قرون من الزمن.

وتتميّز "الشهباء" أيضا بتراث مهم حيث نافست مدينتها العتيقة، بمسجدها الكبير وقلعتها الشهيرة وسوقها، أبرز المعالم الأثرية في العالم، واحتلت مدينتها القديمة مكانا لها على لائحة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونسكو".

وبحسب الباحث الفرنسي المختص في شؤون سوريا، فابريس بالانش، وهو أستاذ بجامعة ليون 2 بفرنسا، فإن حلب والمناطق التابعة لها شهدت طفرة اقتصادية نوعية في العقد الماضي، خاصة  العام 2007، مع توقيع اتفاقات اقتصادية إقليمية، وجعلت تلك المعطيات عاصمة اقتصادية حقيقية لسوريا، قبل أن تصبح ميدانا للصراع بين المعارضة والنظام وتقسّم شرقية وغربية بينهما.

 تعايش ديانات

وأعلنت منظمة "يونسكو" حلب عاصمة للثقافة الإسلامية لعام 2006 وذلك باعتبارها واحدة من أهم المدن الإسلامية ذات المكانة في التاريخ الإسلامي ونظمت احتفالية كبيرة على مدار العام بهذه المناسبة.

ويقول المؤرخ الأمريكي فيليب مانسيل في كتاب له بعنوان "حلبو: صعود وأفول المدينة التجارية الكبيرة في سوريا" "حتى 2012، كانت حلب تتميّز بطابعها السلمي، فلمدة 500 سنة، تعايش سكانها بشكل سلمي بغض النظر عن أصولهم".

وعقب استقلال سوريا في 1946، بقي في حلب قرابة ألفي يهودي، قبل أن يخرجوا منها تدريجيا، وكان المسيحيون أغلبية في حلب حتى القرنين الحادي عشر والثاني عشر ميلادي، وفق المؤرخ الفرنسي برنار هايبيرجير؛ الذي أوضح في أحد مؤلفاته أن "الكثير من المسيحيين كانوا يعيشون مع المسلمين في الحي نفسه وحتى الشارع ذاته".

ولفت المؤرخ الفرنسي إلى أن المسيحيين كانوا يمثلون 25% من سكان المدينة بين القرن الثامن عشر وأوائل القرن العشرين. أما اليوم، فيتراوح عددهم، بحسب التقديرات، بين 160 ألفا إلى 20 ألفا.

ولا توجد إحصاءات دقيقة حول عدد سكان المدينة حالياً بعد نزوح عدد كبير من سكانها جراء الصراع وانعكاسه على الاقتصاد، إلا أن عدد سكانها قبل الأزمة كان يبلغ حوالي 2.3 مليون نسمة، بحسب إحصاءات شبه رسمية.

واليوم كذلك، يرحل من تبقّى على قيد الحياة من سكان الأحياء الشرقية بالمدينة، فارين من جحيم القصف ومشاهد الدمار التي أضحت السمة الوحيدة البارزة فيها وسط الأنقاض.

 ملتقى الحضارات

ويعتقد المؤرّخون أن حلب هي أقدم مدينة في العالم، حيث كانت عاصمة لمملكة "يمحاض" الأمورية، قبل أن تتعاقب عليها العديد من الحضارات، مثل الحيثية والآرامية والآشورية والفارسية والهيلينية والرومانية والبيزنطية والإسلامية.

حضارات بدت بصماتها واضحة في جميع التفاصيل الصغيرة للمدينة، من المعمار إلى التقاليد التي توارثها السكان عبر الأجيال.

وإثر الفتح الإسلامي في 637 ميلادي، أخضعها الخلفاء الأمويون لدمشق، لتظل كذلك مع استثناء صغير صنعه عصرها الذهبي المقتضب الذي شهدته في القرن العاشر، حين غدت مع الموصل، عاصمة لحكم السلالة الشيعية لأمراء الحمدانيين(890- 1004م).

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com