مصر.. خبايا وأسرار "جمهورية الميكروباص"
مصر.. خبايا وأسرار "جمهورية الميكروباص"مصر.. خبايا وأسرار "جمهورية الميكروباص"

مصر.. خبايا وأسرار "جمهورية الميكروباص"

القاهرة- حافلات نقل الركاب في مصر، دنيا واسعة الآفاق وراؤها خبايا وأسرار عدة لا يعلمها إلا المصريون، حتى أطلقوا عليها اسم "جمهورية الميكروباصات (حافلات نقل الركاب)".

هذه الجمهورية تحكمها قوانين اجتماعية صارمة، من قبيل عدم سماح سائق الحافلة للركاب بصعود سيارته، قبل أن ينتهي زميله الأقدم في القدوم إلى الموقف (مكان تجمع الحافلات)، من القيام بنفس المهمة، أو كأن يقوم السائقون دفعة واحدة برفع الأجرة كي يتكاتفوا بوجه المعترضين من الركاب.

لهذه الجمهورية لغة حوار بالإشارة، خاصة بها يتداولها مواطنوها من السائقين والركاب، بأريحية شديدة بدون أي التباس أو سوء فهم.

صالح عبد الله، سائق حافلة صغيرة للأجرة، على طريق المرج (شمال شرقي القاهرة)، فك لمراسلة الأناضول شفرات الإشارات التي يتبادلها مع ركابه لتحديد القبلة التي ستتجه لها سيارته، وقال إن تحريك السبابة بشكل دائري لأعلى يعني "الطريق دائري" (وهو طريق رئيسي على أطراف العاصمة يربط مناطقها المختلفة)، بينما تحريك نفس الإصبع بنفس الطريقة للأسفل يعني الذهاب إلى "ميدان لبنان" (ميدان شهير بحي المهندسين غربي القاهرة).

وأضاف أن الإشارة بأربع أصابع من اليد إلى الأمام تعني الاتجاه إلى "ميدان رمسيس" (وسط القاهرة)، بينما نفس الإشارة بنفس الأصابع الأربع إلى الأسفل تعني الذهاب إلى منطقة المرج.

وأشار إلى أن "طبعا إشارات الذهاب تختلف عن إشارات العودة، لاختلاف المناطق التي سيذهب الناس إليها".

سائق آخر يدعى سعيد عبده، على طريق مدينة السادس من أكتوبر (غرب العاصمة)، قال إن السائق يشير بيده مبسوطة ثم مضمومة دون الإبهام لتعريف الراكب أنه ذاهب إلى مدينة السادس من أكتوبر، مضيفا: "نفس الإشارة داخل المدينة تعني أنه سيتوقف عند الحي المتميز (أشهر أحياء المدينة)".

وأضاف: "أما حينما نشير بالسبابة والوسطى معا على شكل رقم (7)، حينها يكون الاتجاه إلى ميدان الحصري (أشهر ميادين مدينة السادس من أكتوبر) والحي السابع من المدينة، بينما يكون لنفس هذه الإشارة معنى مختلف في حي مدينة نصر (شرقي القاهرة) إذ يستخدمها السائقون للإشارة إلى أنهم متوجهون للحي السابع بالمنطقة".

سعيد الجبري، سائق حافلة ركاب صغيرة، بمنطقة الجيزة (غرب العاصمة)، قال إن السائقين لجأوا لثقافة الإشارات، حينما ظهرت الطرق السريعة في مصر، والتي يصعب عليها أن يوقف الراكب السائق ليسأله عن قبلته، فأصبح من الأسهل على السائق أن يتبادل الإشارة مع الراكب، أثناء القيادة دون أن يضطر للتوقف.

وأضاف في حديثه مع مراسلة الأناضول: "مع بداية تفكيرنا في تحديد إشارة لكل منطقة تصل لها مركباتنا عمدنا إلى أن تكون هذه الإشارة متوائمة مع طبيعة المنطقة، حتى يسهل على الركاب فهم ما تعنيه إشاراتنا، وسرعان ما استجاب الركاب للغة التواصل الجديدة، وأصبحنا نتبادلها في يسر".

وضرب الجابري، مثالا بالإشارة التي خصصها السائقون لمنطقة "الدقي" (غربي العاصمة)، وفيها يضم السائق قبضة يده ويشير للراكب وكأنه يقوم بـ"الطرق على شيء ما"، حيث تشير "الطرق" في الثقافة الشعبية لدى المصريين إلى معني "الدق".

ووفقا للجابري، فإنه يستخدم كلتا يديه لتكوين إشارة هرمية ترمز لذهابه لمنطقة الأهرامات (جنوب غربي العاصمة).

مضيفا، ولأن لواء الشرطة في مصر، يقوم بتعليق نجوم على كتفه تدل على رتبته، اقتبس السائقون فكرة أن يربتوا على أكتافهم في إشارة منهم إلى الركاب بأنهم متجهون لمنطقة أرض اللواء (غرب العاصمة).

خليل عباس، سائق مقطورة، قال إن لهم إشارات كالتي يستخدمها سائقو حافلات الأجرة، يبلغون بها بعضهم البعض رسائل خاصة.

وأوضح قائلا، إنه حينما أصل بمركبتي لمطب صناعي، وأرى سائقا قادما من خلفي بسرعة كبيرة دون أن ينتبه لوجود المطب، أسارع بلفت انتباهه عن طريق تشغيل "انتظار السيارة"، فيبدأ السائق الآخر بدوره في خفض سرعته تفاديا للمطب.

وأضاف: "إذا كان على جانبي الطريق اتجاه إجباري بأن نسير إلى اليمين أشير لمن يأتي خلفي عن طريق فلاش (ضوء صادر من السيارة) السيارة الأيمن، أما إذا كان الاتجاه الإجباري إلى اليسار فتكون إشارتي له باليسار.

بينما قال حبيب عويس، سائق حافلة كبيرة، لمراسلة الأناضول، إنني عندما ألاحظ وجود رادار (الجهاز المسؤول عن مراقبة سرعة السيارات لمعاقبة متجاوزي السرعة القانونية)، أقوم بعمل فلاش (ضوء صادر من السيارة)، للسيارات المقابلة لتقليل السرعة، حتى لا يرصد الرداد مخالفتهم للسرعات المقررة.

بينما أقوم بعمل ذات الإشارة إذا رأيت سيارة مضيئة أنوارها الأمامية المرتفعة في موقف لا يستدعي ذلك، لتنبيه سائقها أن أنوار سيارته مضاءة، ليقوم بإطفائها.

منى عامر، طالبة بكلية التجارة جامعة عين شمس (شرقي القاهرة)، روت لمراسلة الأناضول تجربتها مع إشارات سائقي الحافلات، قائلة: "غادرت مسقط رأسي الشرقية (دلتا النيل/ شمال)، وأتيت إلى القاهرة لاستكمل دراستي في جامعة عين شمس؛ والتي يتطلب ذهابي إليها ركوب مركبة متجهة إلى منطقة العباسية (شرقي القاهرة)".

الطريف وفقا لما روته منى، أنها في اليوم الأول لها بالجامعة، فوجئت بسائق المركبة يشير لها بعلامة تعني في ثقافة المصريين "مستشفى الأمراض العقلية"، وحينما استوضحت من راكب آخر يقف منتظرا بجوارها أبلغها بأن سائقي المنطقة يلجؤون لهذه الإشارة كرمز يعني أنهم متجهون لمنطقة "العباسية"، واختاروا هذه الإشارة تحديدا كون هذه المنطقة، تضم أشهر مشفى في مصر لعلاج الأمراض العصبية والنفسية ويطلق عليها مستشفى العباسية.

وأضافت وسط ابتسامة واسعة: "لم ولن تلجأ أبدا للتلويح بهذه الإشارة المضحكة، وفقا لثقافة المصريين، فقط تنتظر حتى يقوم السائق بأدائها، فتعلم أنه متجه إلى العباسية وتهم بالركوب معه".

أما صلاح أيمن، الموظف بإحدى شركات القطاع الخاص، فتجربته مع إشارات سائقي المركبات تختلف عن تجربة منى، فأيمن الذي يقطن بمدينة السادس من أكتوبر (غربي العاصمة)، منذ 15 عاما، لم يجد مشقة كبيرة في التعرف على تلك الإشارات وترجمة معانيها، "بل واستخدامها في التواصل مع السائقين بعد سؤالهم لمرة واحدة عن معنى كل إشارة"، بحسب ما قال للأناضول.

وأضاف: "مع التكرار، أصبح استخدام هذه الإشارات جزءا من الروتين اليومي الذي أقوم به".

وتابع: "لفت نظري، أن السائقين لجأوا للغة إشارة بينهم، تختلف عن تلك التي يستخدمونها مع الركاب، فحينما يتعذر على السائق توفير عملة معدنية لسداد باقي الأجرة للركاب، يبدأ في الإشارة لأي سائق يمر بجواره بتحريك سبابته وإبهامه، بشكل يفهم منه الآخر أنه بحاجة إلى استبدال عملة ورقية إلى فئات أصغر من العملة معدنية".

بدوره، قال أحمد عبدالله أستاذ الطب النفسي بجامعة الزقازيق (دلتا النيل/ شمال)، إنه "في ثقافة الشعب المصري يعود ابتكار هذه اللغة، للتعبير عن طرافة المصريين وخفة ظلهم، وسرعة بديهتهم"، مضيفا: "هم ليسوا بحاجة إلى الكلمات، ولكن تكفيهم إشارات بسيطة لفهم كل ما يراد قوله".

وفي حديث للأناضول، عبر الهاتف، لفت عبد الله إلى أن "الشعوب التي تميل للاتصال الشخصي هي التي تلجأ لثقافة الإشارات، فالمصريون بدلا من أن يفكروا في تعليق لافتات على الحافلات، توضح وجهتها، فكروا في ابتكار إشارات تسهل عليهم التواصل الشخصي مع السائق الذي يأتي بمركبته مهرولا على الطرق السريعة، ولا يستطيع التوقف ليبلغ كل راكب عن وجهته".

وأضاف: "هناك الكثير من الأبحاث العلمية التي عكفت على دراسة ما يعرف بلغة السيم (الإشارة)، التي يصطلح الناس على معانيها وتداولوها فيما بينهم".

ورغم أن الأجهزة التنفيذية لمشروعات النقل الجماعي (التابعة للمحافظات)، تلزم سائقي حافلات نقل الركاب بتركيب ملصق على كل سيارة مبين به التعريقة الرسمية المحددة وخط السير، غير أن السائقين يعتمدون التعامل بهذه الإشارات، إلى جانب وضع الملصقات، وفقاً للمتعارف عليه مع الزبائن في جمهوريتهم المفترضة، لاسيما أن معظم هذه الحافلات تكون على طريق سريع وهو ما يدفعهم إلى التفاعل مع الزبائن بتلك الإشارات.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com