بون جوووووور
بون جووووووربون جوووووور

بون جوووووور

بون جوووووور

جيهان الغرباوي

من أجمل المزايا التي يتمتع بها الكُتَّاب الكبار، أنهم حين يغيبون عن قرائهم، ويتوقفون عن نشر مقالاتهم، يضعون صورهم الباسمة لدى المساحة التي تعودوا أن يخاطبوا منها الجماهير، ومعها اعتذار رقيق، يبرر عدم كتابتهم هذا الأسبوع، لدواعي السفر خارج البلاد.

وحيث أنني كنت قد اختفيت لعدة أسابيع مضت، ولكن دون تبرير أو اعتذار ولا حس ولا خبر، (فأظنكم الآن تفهمون الفارق والمعنى)، لذا دعونا نتجاوز تلك التفاصيل الصغيرة ، ودعوني أحاول تدارك الموقف،  بالكتابة عن كل ما رأيته وفعلته وحاولته اثناء غيابى هناك.. في باريس، مدينة الجن والملائكة، التي سافرت اليها اسبوعين ،  وعدت منها وليس لي حديث مع أحد، إلا ويبدأ بكلمة "عندنا في باريس ........."!

وبديهيا بذل أصدقائي الطيبون جهداً مشكوراً، في أن يحافظوا على "المود" وعلى أجواء السعادة والمتعة والاندماج التي كنت أعيشها هناك، فلا يحدثني أحدهم قبل أن يحييني برقة قائلاً: "بونجور مودموازيل دي غرباووي"!

وبالمناسبة.. "عندنا في باريس" يقولون "بونجوووور" وكأنها أغنية وليست مجرد كلمة لتحية الصباح، وهي كلمة أساسية جدا في الحياة، لابد أن تسمعها 13 مرة في اليوم – على الأقل – سواء من بائع الخبز أو من سائق الأتوبيس ، أو من صاحب أي محل تدخله للتسوق أو من إحدى الحسناوات الجالسات في شباك بيع تذاكر مترو الأنفاق.. كل منهم هو الذي سيبادرك بكلمة "بونجور" قبل أن تسأله عن أي شيء، ثم يقدم لك الخدمة المطلوبة بكل أدب وسعادة وسماحة، ثم يسبقك بابتسامة واسعة ويقول لك "ميرسي" قبل أن تتركه وتنصرف.

"ناس ذوق ذوق ذوق".. حقيقي، حتى الشحاتين في الشوارع لهم شكل و"ستايل" يهوس. "أوريجنال خالص".

لا فيهم حد هدومه مقطعة، ولا سحنته مقلوبة، ولا جتته جربانة، ولا رائحته عفنة..

مطلقاً.. "أمبوسيبل".

"الأخ الشحات" هناك "ميسيو" محترم جداً وهادئ ونظيف.

بهرني أحدهم مرة، بالجاكيت الأزرق القطيفة الذي كان يرتديه وهو جالس يحتضن ابنه فوق أحد الأرصفة، وأمامه كوب فارغ لجمع "الحسنة" باليورو.. وبالطبع تجاهلت الكوب، لكني لم أتجاهل النظر نحو حذائه الجلدي الجديد، وشرابه الكاروهات الإنلجيزي، الذي كان له نفس درجة لون الجاكيت بالضبط !

أما الشحات الذي قابلته عند جامعة السوربون، فقد كان يليق بالموقف والمكان، إذا بدى يتمشى بكل كبرياء وثقة، يعزف موسيقى الإرب، وكأنه يزف عروسة في فندق 5 نجوم ، لا ينافسه في فنه غير ذلك الشحات "الهييز" الذي جلس يعزف الجيتار على ناصية الحي اللاتيني "سان ميشيل"، وقد فرد أمامه ملاءة رمادية، لتبرعات المعجبين.

وفي مترو الأنفاق كان التسول جماعياً، عندما دخلت نفس العربة التي كنت أستقلها فرقة موسيقية من ثلاثة عازفين للاوكرديون، يقدمون باقتدار بعض أجمل وأبهج المقطوعات المسويقية العالمية، خاصة تلك التي تذكرك بأجواء الموسيقي التصويرية في مسلسل "الأيام"، وفيلم "قاهر الظلام"، وهو في الغالب ما لمس أوتاراً رقيقة ، في أعماق أعماقي، ودفعني دفعا لفتح حقيبتي، والتنقيب جديا عن حسنة، أملاً بها كوب الفرقة الفارغ، الذي حمله أحدهم ولف به على مقاعد الركاب، فما أن وصل عندي، حتى وضعت "اللي فيه النصيب" بسرعة، وكان قطعة فضية من فئة الـ 10 قروش المصرية، أتمنى أن تحوز إعجابهم حين يكتشفونها، وأن يستطيعوا تقدير قيمتها النقدية والتذكارية النادرة.

الطريف حقاً أن الفرنسيين يقدرون جداً، أشياء قد لا نشعر نحن بأي قيمة لها عندنا مثلا " ام الخلول" التي يبيعونها في "لافاييت" أشهر المتاجر الباريسية على الإطلاق، والتين الشوكي الذين يشترون الواحدة منه بـ 2 يورو والحلبة الخضراء التي يقدمونها في أفخم المحلات بالشيء الفلاني، وجنباً إلى جنب الجمبري والسمك والأناناس ، اما الطعمية فيخصصون لها ركناً مميزاً في الحي اللاتيني، والساندوتش منها بـ 5 يورو!

المسلات والآثار الفرعونية، تحتل مرتبة شديدة الاحترام والأهمية في قلوب الشعب الفرنسي، الذي يفسح للمسلة المصرية أهم وأجمل ميادين العاصمة ، ويحيطها بمظاهر الأبهة والتقديس والإجلال، لدرجة تجعلك تدرك أن لتهريب الآثار فوائد عظيمة.

وقد لاحظت أن ملمحاً مصرياً شرقياً اخر قد انتقل لعاصمة النور ، حين أصبحت الباريسيات فجأة مغرمات لحد الجنون، بتحزيم وسطهن بإيشاربات حمراء وخضراء وبمبي وصفراء، مشغولة بالخرز والترتر ومربوطة بدلع "على جنب"، فشر سهير زكي في غزها، ونجوى فؤاد أيام مجدها، وفيفي ودينا وصفوة، في آخر التابلوهات الاستعراضية الراقصة !

وإن كان أحدا لا يعرف حتى اليوم، سر رواج هذه الصيحة الجديدة المستوحاه من خطوط "سنية شخلع" وأفكار "نعيمة سوست"، وروح "شوشو كهربا" إلا أن الذي صار مؤكداً لي بعد التجوال الطويل في الشانزليزيه هو صدق الحكمة السينمائية القديمة القائلة: "صحيح يا ولاد .. الفقر حشمة"!

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com