البيطريون المزيفون يهددون ثروة الأردن الحيوانية

البيطريون المزيفون يهددون ثروة الأردن الحيوانية

هجر معاذ بن عمران، تجارة المواشي، بعد أن تكبد خسارة قدّرها بـ11 ألف دينار أردني (15.5 ألف دولار أمريكي)، جراء نفوق ماشيته بعد أن شخّص مرضها عن طريق الخطأ شخص انتحل صفة طبيب بيطري، وأعطاها حقنات تحتوي مضادات حيوية، بالرغم من أنها كانت تعاني الحمى القلاعية.

ضياع مال تجارته، وفقدانه لمهنته الرئيسة في رعي الأغنام، معاناة مزدوجة عاشها عمران بعد خسارته لقطيع يزيد عدد رؤوسه على 60 خروفا لم يتعدَ عمر بعضها بضعة أشهر.

رؤية الرجل لأغنامه تموت الواحدة تلو الأخرى، فيما يقف عاجزا عن إنقاذها، جعله يعزف عن تربية وتجارة المواشي إلى الأبد، حتى أنه راح ينصح من يريد المتاجرة بالمواشي، الابتعاد عن تلك التجارة "لأنها معرضة للانهيار في أي لحظة"، بحسب قوله.

ويوثق هذا التحقيق كيف انتشر منتحلو صفة "طبيب بيطري" داخل الصيدليات والعيادات البيطرية في الأردن، دون رقابة فعالة من قبل وزارة الزراعة ونقابة الأطباء البيطريين، في ظل عجز جهات إنفاذ القانون عن معالجة المشكلة، وتمكّن المنتحلين من استبدال عقوبة الحبس بغرامة مالية بسيطة.

وأفسح ذلك المجال أمام انتهاك قطاع الطب البيطري واختراقه، ما أدى إلى نفوق آلاف الماشية في بلدٍ يستهلك سنويا حوالي 52 ألف طن من اللحوم الحمراء، يستورد منها نحو 70% من الأسواق العالمية، بقيمة تصل إلى نصف مليار دينار.

أطباء "بحكم الواقع"
اعتاد "عامر. خ" التعريف عن نفسه بشكل مباشر أو عبر "بروشورات" على أنه طبيب بيطري، وبأنه يمتلك صيدلية بيطرية وسط العاصمة الأردنية عمّان.

ويجري الرجل عمليات كاملة للحالات الطارئة وجراحات صغرى وكبرى للحيوانات، على مدار الساعة، وينشرها على منصات التواصل الاجتماعي، وفق متابعتنا لصفحته على "فيسبوك".

أقيمت بحقه دعوى قضائية بتهمة ممارسته مهنة الطب البيطري على الرغم من أنه غير منتسب أو مسجل بسجلات الأطباء في نقابة الأطباء البيطريين الأردنيين، كما أنه غير مسجل في قائمة أسماء البيطريين المزاولين للمهنة في وزارة الزراعة (مديرية البيطرة).

أُدين عامر وحُكم عليه بغرامة 100 دينار والحبس شهرا واحدا. بعد انقضاء المدة عاد لمزاولة المهنة وفتح عيادته من جديد وكأن شيئا لم يكن.

تنص المادة (18/أ) من قانون ممارسة مهنة الطب البيطري في الأردن رقم 10 لسنة 1988، على أنه "يُعاقب بالحبس لمدة لا تقل عن شهر ولا تزيد على ستة أشهر أو بغرامة لا تقل عن 100 دينار ولا تزيد على 500 دينار أو بكلتا العقوبتين، كل من انتحل صفة طبيب أو أعلن عن نفسه بأي وسيلة بما يحمل على الاعتقاد بأنه له الحق في ممارسة المهنة".

شكاوى بلا طائل
وصل عدد الشكاوى ضد منتحلي صفة بيطري العام 2020، إلى 50 شكوى، وارتفعت إلى 60 خلال 2021، وفقا لنقابة الأطباء البيطريين، في ظل وجود 66 عيادة بيطرية و104 صيدليات منتشرة بالمملكة.

ووصل الأمر ببعض منتحلي صفة أطباء بيطريين إلى التغيب عن جلسات المحكمة، كما حصل مع أحمد عبدالصمد (اسم مستعار).

جُرّم عبدالصمد بانتحال صفة طبيب بيطري، وصدر بحقه حكم غيابي بالحبس ثلاثة أشهر، استبدلها بدفع غرامة مالية.

بالعين المجردة
جالت معدة التحقيق على ثماني عيادات وصيدليات بيطرية في منطقتي "عين الباشا" و"اليادودة"، المعروفتين بتربية المواشي. ووثقت كيف تتم معاينة المواشي وتحضير العلاجات وإعطائها من عمال بعضهم من جنسيات عربية لا يحملون حتى شهادة الثانوية، وآخرون يحملون تخصصات بعيدة عن البيطرة، مثل المختبرات والهندسة الزراعية.

راجعت معدة التحقيق هذه الأسماء في سجلات نقابة الأطباء البيطريين ومديرية البيطرة بوزارة الزراعة ولم تجدها.

وتعود مسؤولية متابعة العيادات والصيدليات البيطرية إلى وزارة الزراعة التي تنفّذ 10 جولات تفتيشية سنويا كما يقول مسؤولون فيها، ولكنها أنكرت بداية علمها بوجود المنتحلين داخل الصيدليات، ثم أكدت صعوبة متابعتهم لأنهم ينتشرون خارج الأماكن المرخصة.

في حين قدم عامل من جنسية عربية نفسه لمعدة التحقيق، على أنه طبيب بيطري من داخل إحدى الصيدليات البيطرية، وأبدى استعداده لزيارة مزرعة مواشٍ وفحص حيوانات الإبل وعلاجها، وبعد التقصي تبين بأنه لا يحمل أي شهادة علمية.

ضعف الرقابة
يقر نقيب الأطباء البيطريين الأردنيين أحمد دحيات (تضم النقابة 1817 طبيبا مسجلا بشكل قانوني) بأن "ضعف الرقابة من الجهات المعنية، وعدم تطبيق قانون ممارسة مهنة الطبيب البيطري، هو ما فتح الباب أمام استباحة قطاع الطب البيطري على مصراعيه".

يقول دحيات لـ"إرم نيوز": "لا توجد ضابطة عدلية في نقابة الأطباء البيطريين لتطبيق القانون، كما أنه لا توجد أي رقابة تذكر من قبل الجهات الحكومية، وتلك الفوضى مكّنت بعض المتطفلين على المهنة من إجراء عمليات جراحية والتعامل مع الأدوية البيطرية بتهاون وعدم دراية".

تداخل عمل الصيدليات والعيادات
الطبيب البيطري عاكف الزعبي يضع المهندسين الزراعيين على قائمة منتحلي صفة الطبيب البيطري. ويقول: "المهندس يمارس الطب بالرغم من أن عمله يقتصر على بيع الأدوية".

قانونيا يحق للمهندس الزراعي العمل في الصيدليات ومتابعة التخزين السليم للأدوية البيطرية حصرا.

وتنص المادة العاشرة من قانون ممارسة مهنة الطب البيطري في الأردن على أنه "يجوز للوزير الترخيص للمهندس الزراعي الاختصاصي بتربية الحيوان وإنتاجه وبيع الأدوية البيطرية الجاهزة دون غيرها، على أن يكون قد أمضى مدة لا تقل عن 3 سنوات في التعامل بتلك الأدوية".

وتقر نقابة الأطباء البيطريين بتداول الأدوية البيطرية دون مراعاة الشروط الصحية لضمان سلامتها من التلف.

يوضح النقيب دحيات أن "ثمة أدوية تحتاج إلى وضعها في الثلاجة وبعضها الآخر في درجات حرارة معتدلة، إلا أن هناك بعض الأشخاص وعددا من سيارات النقل الصغيرة تبيع الأدوية البيطرية للمزارعين مباشرة، دون الالتفات إلى تعرضها للتلف بسبب سوء التخزين أو فسادها".

مدير قسم البيطرة في وزارة الزراعة الدكتور عصام حوا يكشف لـ"إرم نيوز" أن "آلية الرقابة في الوزارة تتمثل بالزيارات العشوائية كل شهرين تقريبا على العيادات البيطرية، وفي حال وجود مخالفات فإن المخالفين يتحولون إلى المحكمة لتحكم عليهم بغرامة تتراوح ما بين 100 إلى 500 دينار وحبس شهر يمكن استبداله بغرامة مالية".

ويشير إلى أنه "لا يوجد أرقام لأعداد حملات التفتيش، وإنما بحسب نشاط الأطباء البيطريين، فالعيادات ممتدة من شمال الأردن إلى جنوبه".

لا إحصائيات
تغيب إحصائيات نفوق المواشي عن وزارة الزراعة، ويبرر مدير الدائرة البيطرية في وزارة الزراعة عصام حجو الأمر بأن المديرية لا تتبلّغ عن حالات نفوق المواشي في كثير من الأحيان حين حدوثها، ولذلك لا يوجد إحصائيات داخل وزارة الزراعة حول أعداد المواشي النافقة.

لكن استمارة سنوية توزعها دائرة الإحصاءات العامة على المزارعين، أظهرت أن عدد المواشي النافقة في المملكة بلغ في العام 2020 وحده 113.284 رأس موزعة كالآتي: (الضأن 85,843، أبقار 1031، ماعز 26,410)، فيما سجلت رقما قياسيا في 2016 زاد على 250 ألف رأس.

أعداد نفوق المواشي في الأردن
وفقا لتقرير صادر عن وزارة الزراعة الأردنية في بداية حزيران/ يونيو 2022، تبلغت الوزارة من خلال الشرطة البيئية بنفوق 48 رأسا من الأبقار في منطقة الخالدية بالمفرق، وعلى الفور توجه ممثلون عنها إلى الموقع وأخذوا عينات من المياه والعلف وأحشاء الأبقار النافقة وأرسلوها إلى المختبرات المتخصصة بالأعلاف والثروة الحيوانية.

لم يصدر حتى الآن تقرير رسمي عن أسباب النفوق الجماعي للأبقار، إلا أن الطبيب البيطري الذي عاين الأبقار النافقة أكد أن نفوق تلك الأبقار كان بسبب إعطائها جرعات من دواء "الأتروبين"، وهو دواء يستخدم في حالات التسمم، لكن إعطاءه للأبقار بجرعات عشوائية وخاطئة يؤدي إلى نفوقها، وهو ما تؤكد عليه أيضا الشركة المنتجة للدواء.

فاتورة الاستيراد
يستورد الأردن نحو 52 ألف طن من اللحوم الحمراء سنويا، وفقا لسجلات التجارة الخارجية، الصادرة عن دائرة الإحصاء.

في عام 2021 استوردت المملكة ما قيمته 277 مليون دينار أردني من الحيوانات المذبوحة، فيما استوردت حيوانات حية بقيمة 209 ملايين دينار، بمجموع يصل إلى 486 مليون دينار.

تباع العجول المستوردة في الأردن ما بين 2000 إلى 2200 دينار أردني فيما تصل أسعار البلدية إلى 2400 دينار.

وتُباع الأغنام بوزن 40 كغ للمستورد بـ 150 دينارًا، وللبلدي بـ 200 دينار، بحسب تصريحات مساعد الأمين العام للثروة الحيوانية علي أبو نقطة.

متبقيات سمية
لا ينتهي العلاج الخاطئ للثروة الحيوانية بموتها، وإنما يتعداه إلى ذبحها قبل الموت وبعد أخذها للقاحات البيطرية، ما يعني وجود متبقيات الأدوية البيطرية في أجسام الذبائح، وهو ما يشكل تهديدا صحيا على الإنسان الذي تنتقل إليه بعد تناولها وفقا لدراسة حديثة أعدها باحثون من فرنسا وموريتانيا والسنغال.

ويشير نقيب الأطباء البيطريين إلى أن "الفوضى القائمة في قطاع البيطرة تهدد الصحة العامة للإنسان بطريقة مباشرة وغير مباشرة، خاصة وأن بعض الأمراض لا يمكن معرفتها إلا من قبل الأطباء البيطريين، والتشخيص الخاطئ لها يشكل كارثة صحية حقيقية على الحيوانات ومن ثم الإنسان من خلال تناولها بعد ذبحها، أو من خلال الأمراض المشتركة التي يمكن أن تنتقل من الحيوان إلى الإنسان".

يقر المزارع أبو أحمد (اسم مستعار) بأنه يعمد إلى ذبح الخراف عندما لا تستجيب للعلاج البيطري وقبل أن تنفق، ومن ثم يبيعها للقصابين بسعر أقل من الذبائح السليمة بعيدا عن عين الرقابة".

كما أنه لا يلتزم بعدد الجرعات التي يجب إعطاؤها للمواشي، حتى أنه يتصدى لعلاج وتطعيم المواشي التي يملكها دون اللجوء إلى طبيب بيطري، حسبما اعترف لمعدة التحقيق.

مدير مديرية الرقابة على المسالخ في أمانة عمان، الدكتور يسار الخيطان، يبيّن أن "تعرض الحيوانات للكثير من المضادات الحيوية والعلاجات غير السليمة يؤدي إلى انتقالها للإنسان، فتضعف مقاومته للأمراض البكتيرية ولا يعود جسمه يستجيب للمضادات الحيوية عند إصابته بالمرض".

ويضيف أن "البكتيريا المعالجة في أجسام الحيوانات تكتسب نوعا من المقاومة، وعند انتقالها للإنسان تصبح مقاومة للمضادات الحيوية والعلاج".

كما يؤكد عدم وجود أي فحوصات دورية من قبل أمانة عمان أو وزارة الزراعة توضح وجود متبقيات الأدوية البيطرية في الذبائح من عدمه، قائلا: "لا يوجد فحص منتظم لمتبقيات الأدوية البيطرية يبين خلوها من المتبقيات".

ويتابع الخيطان: "في حال إعطاء الأدوية البيطرية بصورة خاطئة للماشية فإنها تتحول إلى متبقيات، وتشكل تهديدا حقيقيا لصحة الإنسان عند انتقالها له".

"متبقيات الأدوية البيطرية وارتفاع مستواها عن الحدود المسموح بها في المنتجات الحيوانية تتسبب بكثير من المخاطر الصحية للبشر" وفقًا لاختصاصي الأغذية الوظيفية في قسم التغذية وتكنولوجيا الأغذية في جامعة البلقاء التطبيقية صدام العوايشة.

يقول العوايشة: "التأثيرات السامة والمسرطنة غير المسموح باستخدامها في الإنتاج الحيواني تعتبر من أكثر المخاطر التي تهدد صحة المستهلكين، خاصة أن دول العالم حظرت استخدامها بعد ظهور العديد من التقارير العلمية التي تؤكد سمية تلك المضادات من خلال رصد حالات التسمم والمرض عند المستهلكين".

وتبين دراسة أجراها معهد بحوث الغذاء في جامعة "ويسكونسن ماديسون" في الولايات المتحدة الأمريكية حول مخلفات الأدوية البيطرية، بأن البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية تنامت في الحيوانات المعالجة، وبالتالي أصبح علاج الالتهابات التي يصاب بها الإنسان حال تناوله لتلك اللحوم أكثر صعوبة.

هرمونات تزيد الطين بلة
يشتري عصام جابر (مدرس في مدرسة ماركا الحكومية) خروفا في كل عام قبل عيد الأضحى من دون أن يسأل عن الحالة الصحية لتلك الخراف كما يقول، وهو ما يفعله كثيرون، إذ تُباع آلاف المواشي قبل عيد الأضحى أمام الملأ ودون إشراف طبي أو رسمي.

الطبيب البيطري عاكف الزعبي يوضح أن "هناك فترة أمان للأدوية البيطرية يجب أن تنتهي قبل ذبح المواشي أو الدواجن، وذلك حتى تتخلص الحيوانات من متبقيات الدواء المعطى لها قبل ذبحها، لكنه يعبر عن أسفه "لأن إعطاء الأدوية البيطرية يتم بشكل عشوائي فيما يغيب دور الطبيب البيطري ولا تراعى قبل ذبح الحيوانات فترة الأمان اللازمة لتخليص جسم الحيوان من المضادات الحيوية والحيلولة دون انتقالها للإنسان".

ويوضح الزعبي بأن "خطورة متبقيات الأدوية البيطرية تزداد عند إعطاء الأدوية البيطرية للحيوانات عن طريق الفم، إذ لها علاقة مباشرة بالأمراض السرطانية التي قد تصيب الإنسان عند عدم مراعاة فترة الأمان".

ويشرح بأن "الأدوية البيطرية تنتقل للإنسان عن طريق منتجات المواشي كالحليب، فمثلا عند عدم مراعاة فترة الأمان يكون تركيز الأدوية عاليا في الأيام الأولى، ويجب أن تعطى فترة أمان كافية لتخليص الأبقار من تراكيز الأدوية".

ويشير إلى أن "بعض الأشخاص يستخدمون عناصر هرمونية لتحسين الإنتاج، وعند إعطائها بشكل زائد تخزن في الأعضاء كالكلى والكبد لدى الحيوان؛ وهو ما يسبب مشاكل صحية للإنسان، كما أن استخدام منتجات الحليب لتلك المواشي ينقل المواد السمية".

ويطالب الزعبي بوجود إشراف طبي بيطري في كل مزرعة من مزارع المواشي في المملكة، لافتا إلى أن هذا الطلب مستمر منذ أكثر من 14 عاما مضت حتى اليوم دون جدوى".

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com