"بروفيسور سائق حافلة".. نزيف الكفاءات الأكاديمية في اليمن (1)

"بروفيسور سائق حافلة".. نزيف الكفاءات الأكاديمية في اليمن (1)

بروفيسور.. سائق حافلة

بالكاد يستطيع الأستاذ الدكتور عبدالله الحكيمي، أستاذ علم الاجتماع والأنثروبولوجيا بجامعة صنعاء، توفير قوت أسرته اليومي، بعد أن تم سحب اسمه من جدول التدريس ومُنع من التدريس بقرار من قبل عمادة كلية الآداب والعلوم السياسية، بسبب رفضه منح الطلاب 15 درجة ليحصل بعضهم على تقدير ممتاز، في "تصرف فردي" يتجاوز كل الأعراف والتقاليد الأكاديمية، "بل ويعمل على انحدار مستوى الجامعة ومعايير جودتها"، حسب قوله.

الدكتور عبدالله الحكيمي
الدكتور عبدالله الحكيمي
الدكتور عبدالله الحكيمي على متن حافلته
الدكتور عبدالله الحكيمي على متن حافلته

يكشف البروفيسور لـ"إرم نيوز"، عن أنه يعيش الآن على قدر الدخل المادي اليومي الذي يكسبه من عمله كسائق حافلة تنقل الطلاب، لكن الأهم بالنسبة إليه هو "توفير الأدوية التي يحتاجها بصفة مستمرة، لأمراض مثل السكر والقلب، والتي تصل شهريًّا إلى 150 دولارًا، (تعادل 80 ألف ريال يمني في مناطق سيطرة الحوثيين)، وهي لازمة لاستمرار الحياة".

ودأب الحكيمي، الذي ألّف 12 كتابًا و3 روايات وأشرف على أكثر من 30 أطروحة علمية في مجال علم الاجتماع بجامعتي صنعاء وعدن، منذ أشهر، على كتابة منشورات بموقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك" تحت عنوان "يوميات بروفيسور بدرجة سائق باص"، يحكي فيها تفاصيل حياته الجديدة، ويشير في أحدها إلى أن عمله كسائق حافلة "لن يقلل من مكانته العلمية والأخلاقية وإنما هو وسام شرف على صدره في زمن يقل فيه احترام العلم والعلماء" كما يقول.

"أقل من 5 دولارات مقابل ساعة التدريس"

وعلى غرار الحكيمي يلخص الأستاذ الجامعي في كلية الشريعة والقانون بجامعة صنعاء، محمد الأصبحي (اسم مستعار) حالة الإحباط والبؤس التي يعاني منها الأكاديميون اليمنيون في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين، على مدى 8 سنوات مضت.

يقول الأستاذ الجامعي، الذي فضّل إخفاء هويته حتى لا يتم التعرّض له، إن الأكاديميين اليمنيين يراقبون مستوى الحياة الكريمة التي يحظى بها زملاؤهم في دول الإقليم والخارج، بصفتهم نُخب بلدانهم، "في حين نكتشف أننا مجردون من أدنى قيمة في اليمن، وأن أعمارنا التي أضعناها في الغربة والدراسة في الخارج كانت مجرد سراب، بعد أن أصبحت الشهادات التي نحملها ورقة من الوهم، لا تُغني ولا تُسمن من جوع".

ويشير "الأصبحي" الذي يعمل متعاقدًا مع جامعة صنعاء مقابل 2500 ريال يمني (أقل من 5 دولارات) مقابل ساعة التدريس، في حديثه لـ"إرم نيوز"، إلى أن الأستاذ الجامعي في اليمن بات "يكافح من أجل البقاء على قيد الحياة، ولم تعد العملية الأكاديمية تشغله، بل السعي ليلَ نهار للبحث عمّا يسدّ رمقه وجوع أسرته، من خلال التفتيش عن أي فرصة عمل، سواء كانت أكاديمية في إحدى الجامعات الأهلية، أو من خلال ممارسة أعمال أخرى أيًّا كانت"، على حد قوله.

في تقرير لموقع "الفنار للإعلام" المتخصص في الشؤون الأكاديمية العربية، يبيّن أنه "مع اقتراب الحرب اليمنية من الدخول في عامها التاسع، يعيش أساتذة الجامعات في مختلف أنحاء اليمن، أوضاعًا مأساوية متفاوتة، تتفاقم حدة سوئها في مناطق سيطرة الحوثيين، شمالي البلاد، إثر انقطاع مرتباتهم منذ أواخر العام 2016؛ ما دفع كثيرين منهم للبحث عن أي أعمال أخرى توفّر لهم أقل قدر من الحياة الكريمة، في حين لجأ آخرون إلى بيع مقتنياتهم الشخصية وأثاثهم المنزلي لتوفير إيجار مسكن لأسرهم وسدّ حاجاتهم، وسط ظروف معيشية صعبة، فيما آثر الآلاف منهم الهجرة إلى الخارج".

يسبر "إرم نيوز" في هذا التحقيق المكون من جزأين، أغوار المعاناة الأكاديمية في اليمن، من خلال استطلاع آراء نحو 32 أستاذًا جامعيًّا في عدد من الجامعات الحكومية في مناطق سيطرة الحوثيين، بحثًا عن الأسباب التي أدت إلى هجرة العقول الأكاديمية اليمنية إلى خارج البلاد، وأوصلت عملية التعليم العالي إلى أسوأ مستوياتها، بشكل يؤثر على جودة مخرجات التعليم العالي التي تمثّل المستقبل اليمني.

انفوغرافيك جامعات يمنية تحت سيطرة الحوثيين
انفوغرافيك جامعات يمنية تحت سيطرة الحوثيين

من المضايقة إلى جامعات بريطانيا

يروي الأكاديمي مروان مفلح (اسم مستعار) اضطراره إلى إغلاق كل صفحاته على مواقع التواصل الاجتماعي، عقب إجهاض تجربته التدريسية في إحدى كليات التربية التابعة لجامعة حضرموت، بسبب عدم توفّر سكن له ولأسرته أسوةً ببقية الكادر الأكاديمي، ويتحدث عن تعرضه إلى جملة من المضايقات والتهديدات، بعد عودته إلى صنعاء الخاضعة لسيطرة الحوثيين، والتي تقيم فيها أسرته، بسبب عدم "قبولهم بأي متنوّر غير خاضع لسياساتهم ورقابتهم المشددة على معظم ما ينشر، حتى على مواقع التواصل الاجتماعي".

يقول مفلح، الحاصل على درجة الدكتوراه في الأدب الإنجليزي عام 2020، من جامعة "أفلو" بعاصمة ولاية تيلانغا الهندية، حيدر أباد، إنه على الرغم من صبره وتحمّله للضغوط خلال فترة بقائه في صنعاء، إلا أنه لم يتمكن من الحصول على عقد عمل لائق، إذ عُرض عليه العمل في جامعة صنعاء، لكن العرض كان دون مقابل مادي، وهو ما اضطره إلى خوض تجربة العمل في الجامعات الأهلية، التي قال إنها "تستغل الكوادر التعليمية ماليًا، بما لا يكاد يغطي مصاريف المواصلات فقط، لأن هذه الكوادر ليس لديها أي خيارات أخرى، فكيف يمكن للأكاديمي تدبّر أمور ومتطلبات أسرته وأساسيات الحياة الكريمة؟".

وعلى غرار نظيراتها الحكومية، تدفع الجامعات الأهلية في اليمن على الساعة التدريسية الواحدة نحو 2500 ريال (أقل من 5 دولارات) فيما يدفع بعضها الآخر 1800 ريال (أقل من 3,5 دولار)، وهذه المبالغ موازية لما كان يُدفع في عام 2011 قبل أن تفقد العملة اليمنية معظم قيمتها.

ويشير مفلح في حديثه لـ"إرم نيوز"، إلى أنه لجأ بعد سلسلة من المعاناة، للتواصل مع منظمة "CARA Scholars At-Risk" البريطانية، المهتمة بحياة الأكاديميين المعرّضين للخطر وفق معاييرها، واجتاز إجراءاتها الطويلة، ونجح في الانتقال إلى بريطانيا على نفقتها، ثم تمكن أخيرًا من الحصول على رخصة معتمدة من السلطات البريطانية لمزاولة التطبيق الأكاديمي وحصل على مقعد عمل في إحدى الجامعات العريقة، غربي لندن، وبات يمارس عمله الأكاديمي بكل أريحية، منذ عام، ويجد من يقدّر جهوده.

6 آلاف مهاجر

تمكّن معد التحقيق من الوصول إلى أحد المسؤولين في "وزارة التعليم العالي والبحث العلمي" في حكومة الحوثيين غير المعترف بها، والذي أبدى تعاونًا في البداية من خلال الرد على تساؤلاتنا، عبر تسجيلات صوتية وردود مكتوبة عبر تطبيق "واتس آب"، غير معترض على النشر.

لكن لم تمضِ نصف ساعة على تصريحه، حتى عاد معتذرًا يطلب عدم ذكر اسمه بسبب "سوء فهم بيني وبين آخرين" في الوزارة، كما قال.

وكان المسؤول أشار في أحد التسجيلات الصوتية، إلى أن التقديرات الأولية لأعداد الأكاديميين اليمنيين المهاجرين، من عموم الجامعات المحلية بمختلف مناطق البلاد، تتراوح ما بين 5 إلى 6 آلاف أكاديمي مهاجر، منذ العام 2011 وحتى الوقت الحالي، معظمهم أطباء ومهندسون وأساتذة في تخصصات عديدة.

وقال إن مغادرتهم كانت لأسباب مختلفة، بعضها مرتبط بالحرب والبعض الآخر لدواعي العلاج وآخرون للتفرغ العلمي (إجازة)، ونظرًا لسوء الأوضاع الحالية في البلد، "لم يعد منهم إلا القليل، ويعمل بعضهم في دول الجوار بموجب عقود عمل".

وأشار إلى أن آخر إحصائية موثقة لأعداد أساتذة الجامعات في محافظات شمال اليمن، تعود إلى العام 2014، ويبلغ فيها عددهم نحو 12 ألف أستاذ جامعي.

وتغيب إحصائيات الأكاديميين اليمنيين المهاجرين عن وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في الحكومة الشرعية المعترف بها دوليًّا، بحجة حداثة تأسيس الوزارة عقب انتقالها في العام 2017 من صنعاء، إلى عاصمة البلاد المؤقتة عدن.

وفي محاولة لمعرفة أعداد الأكاديميين المنقطعين والمهاجرين عن جامعة صنعاء ومدى تأثيرهم على العملية التعليمية، تواصلنا مع رئيس جامعة صنعاء، الدكتور القاسم محمد عباس، عبر الاتصال الهاتفي وبواسطة تطبيق "واتس آب" بضع مرات، دون أن نتلقى أي رد.

كما كررنا محاولات التواصل مع وكيل قطاع الشؤون التعليمية في وزارة التعليم العالي في حكومة الحوثيين، الدكتور غالب حميد، للحصول على تعليقات حول موضوع التحقيق، إلا أنه فضّل عدم الرد أو التعليق، رغم اطلاعه على الرسائل.

لكن عميد مركز التطوير الأكاديمي وضمان الجودة بجامعة صنعاء، المعيّنة من قبل الحوثيين، الدكتورة هدى العماد، أفادت في مقابلة صحفية سابقة تعود لعام 2022، بأن نسبة المتسربين من هيئة التدريس وكوادر الجامعة لا تزيد على 15%، و"لم يؤثروا على العملية التعليمية، وتم شغل الفراغ الذي تركوه بكوادر يمنية مؤهلة"، على حدّ قولها.

لا مرتبات

يؤكد المسؤول في وزارة التعليم العالي التابعة للحوثيين، أن الوزارة خاطبت الجهات المسؤولة في حكومة صنعاء، وحذرتها من استمرار انقطاع المرتبات عن المجتمع الأكاديمي وما يترتب عليه من آثار سلبية على الجامعات وعلى التعليم العالي برمته.

وقال إن الوزارة لم تستطع توفير بدائل مادية لصرف المرتبات أو الحوافز الأخرى، "غير أن الجامعات الحكومية اعتمدت على التمويل الذاتي من خلال الرسوم الدراسية التي يتم تحصيلها من الطلبة، ويتم صرف بعض الحوافز الرمزية لأعضاء هيئة التدريس، لا تكاد تفي بالغرض، لكن يتم صرف بدل تدريس لأعضاء هيئة التدريس والإداريين".

صورة من مطالبات صرف الحوافز
صورة من مطالبات صرف الحوافز

مصادر أكاديمية في جامعة صنعاء اشترطت عدم الكشف عن هويتها أيضا، قالت لـ"إرم نيوز"، إن الجامعة لجأت إلى اعتماد التعامل مع أساتذتها بأجر مالي "عن كل ساعة" يقضونها في المحاضرات، بشكل متفاوت بحسب الأقسام والكليات، في ظل انقطاع المرتبات الشهرية خلال الأعوام الماضية، بحيث يحصل عضو الهيئة التدريسية على 5 آلاف ريال يمني (أقل من 10 دولارات) مقابل الساعة الواحدة، في الكليات العلمية والتي لديها إيراد مالي، في حين يصل المقابل في الكليات الأدبية كالتربية والآداب، إلى 3 آلاف ريال يمني (أقل من 6 دولارات)، وهو ما يتسبب بمشاكل مالية للكثير من الأكاديميين الذين ليس لديهم سوى محاضرة واحدة أو محاضرتين خلال الأسبوع.

وذكرت المصادر أن هناك مساعدات مالية ضئيلة غير منتظمة، تقدمها الجامعة لأساتذتها الذين لا تصل مستحقاتهم إلى سقف مالي محدد، تصل قيمتها إلى 13 ألف ريال يمني شهريًّا (ما يعادل نحو 24 دولارًا)، وفق سعر العملة الوطنية في مناطق سيطرة الحوثيين، بينما يحصل المتعاقدون على 2500 ريال (أقل من 5 دولارات) مقابل ساعة التدريس الواحدة.

ويحاول الأكاديميون في البلاد، تحسين دخلهم المادي وظروفهم المعيشية من خلال التدريس في الجامعات الأهلية، بشكل مواز لأعمالهم في الجامعات الحكومية، بالرغم من المقابل المادي الضئيل الذي تدفعه هذه الجامعات مقابل كل ساعة، في ظل "أسوأ أزمة إنسانية في العالم"، وفق توصيف الأمم المتحدة.

في المقابل، أصدر "وزير التعليم العالي والبحث العلمي" في حكومة الحوثيين، الدكتور حسين حازب، توجيهات في نيسان/ أبريل المنصرم، للجامعات الحكومية في مناطق شمال البلاد، يطالب فيها برفع كشوفات تتضمن أسماء أعضاء هيئة التدريس العاملين في الجامعات الأهلية والمغادرين للبلد خلال الحرب، وتطبيق "القانون" من خلال فصلهم من الجامعات الحكومية.

جانب من قرار فصل أكاديميين في 2016
جانب من قرار فصل أكاديميين في 2016
جانب من قرار فصل اكاديميين في 2016
جانب من قرار فصل اكاديميين في 2016
جانب من قرار فصل أكاديميين في 2018
جانب من قرار فصل أكاديميين في 2018
جانب من قرار فصل أكاديميين في 2018
جانب من قرار فصل أكاديميين في 2018

وبحسب دراسة نشرتها "وزارة التعليم العالي" التابعة للحوثيين في آذار/ مارس 2021، فإن عملية نقل البنك المركزي اليمني من صنعاء إلى عدن، "تسببت بانقطاع مرتبات الأكاديميين؛ ما أدى إلى تردي الأوضاع المعيشية لمنتسبي الجامعات وضعف أداء مؤسسات التعليم العالي وتدهور العملية التعليمية وزيادة التسرب وقلة الالتحاق بالتعليم الجامعي وإغلاق عدد من الأقسام العلمية وانخفاض مستوى الجودة وزيادة نزيف وهجرة العقول العلمية إلى الخارج".

بيئة غير جاذبة

خلال سنوات الحرب، تعرضت البنية التحتية لمؤسسات التعليم العالي في البلاد، لأضرار مختلفة خاصة في مناطق سيطرة الحوثيين، نتيجة استخدامهم المباني كثكنات ومقرات عسكرية؛ ما جعلها عرضة للغارات الجوية التي كانت تشنّها طائرات التحالف العربي الداعم للشرعية.

عسكر عند مدخل جامعة صنعاء
عسكر عند مدخل جامعة صنعاء

ووفقًا لإحصائيات صادرة في 2021 عن "وزارة التعليم العالي" لدى الحكومة المشكّلة من الحوثيين، فإن جامعتي الحديدة وصعدة دمّرتا بشكل كلي، في حين طالت الأضرار الجزئية عددًا من الجامعات الأخرى، بتكلفة مالية تصل إلى أكثر من 280 مليار ريال يمني (نحو نصف مليار دولار) ، فضلًا عن مقتل أكثر من 200 طالب من منتسبي التعليم العالي.

احتجاجات طلابية على مقتل أكاديمي
احتجاجات طلابية على مقتل أكاديمي
احتجاجات طلابية على مقتل أكاديمي
احتجاجات طلابية على مقتل أكاديمي

البروفيسور، مصطفى بهران، الأستاذ الزائر بجامعة "كارلتون" الكندية، قال إن اليمن لم يكن يمتلك بيئة علمية وأكاديمية جاذبة للإبداع والاختراع والبحث العلمي، حتى في زمن الاستقرار النسبي، قبل الحرب الحالية، "وهذه في الحقيقة طبيعة مشتركة لأغلب إن لم تكن كل بلدان العالم الثالث، فلا توجد مؤسسات علمية وبحثية عريقة من جهة ومتقدمة من جهة أخرى، ولا يوجد دعم مالي ولا معنوي للعلم والعلماء، بما في ذلك انعدام تمويل البحث العلمي والبحث والتطوير".

ويشير عضو هيئة التدريس السابق بجامعة صنعاء، في حديثه لـ"إرم نيوز"، إلى أن الحرب الحالية "جاءت فزادت الطين بلة، بل قضت على ما تبقى من الحياة الأكاديمية عمومًا، وما يخص الإبداع والاختراع والبحث العلمي خصوصًا".

تدخلات حوثية

عقب سيطرتهم على العاصمة اليمنية صنعاء في 2014 بعدة أشهر، دشّن الحوثيون حملات اعتقال طالت العشرات من أعضاء هيئة التدريس والطلاب بجامعة صنعاء، التي استبدلوا رئيسها ونوابه المعينين بقرارات جمهورية، بآخرين موالين لهم، لتنطلق رحلة الجامعات اليمنية الحكومية والأهلية مع موجة من العنف والقمع، تطورت لاحقًا إلى عمليات اختطاف وتعذيب وأحكام بالإعدام أصدرها الحوثيون بحق العشرات من المعارضين، في تموز/ يوليو 2019، بينهم "أكاديميون وطلاب" وفق بيان سابق لـ"رابطة أمهات المختطفين" المحلية.

وشرع الحوثيون في ممارسة سلسلة من التدخلات وعمليات القمع في جامعة صنعاء – كبرى جامعات البلد - شملت المحتوى الدراسي والكادر الأكاديمي، والأنشطة الجامعية، وصولًا إلى المظهر الخارجي للطلاب والطالبات، كما قامت بعزل الطالبات عن زملائهن الطلاب داخل بعض القاعات الدراسية، من خلال بناء حواجز أسمنتية مستحدثة للفصل بين الجنسين، بشكل يستهدف استقلاليتها التي تنصّ عليها المادة رقم (3) من قانون الجامعات اليمنية، كمؤسسات "مستقلة ماليًّا وإداريًّا".

الحاجز الأسمنتي داخل قاعة الجامعة
الحاجز الأسمنتي داخل قاعة الجامعة
رسالة تطالب بمنع اختلاط الطلبة
رسالة تطالب بمنع اختلاط الطلبة

يقول الدكتور، أحمد الدغشي، أستاذ الفكر التربوي بجامعة صنعاء، في حديثه لـ"إرم نيوز"، إن الحوثيين أدرجوا جملة من التعديلات والإضافات في مناهج التعليم العالي، من خلال ادعائهم "إعادة توصيف بعض المقررات، والتي تركّزت على الأقسام الشرعية كالدراسات الإسلامية بدرجة رئيسة والعلوم الاجتماعية بدرجة ثانية، وأزاحوا كل أعضاء الهيئة التدريسية بقسم علوم القرآن بكلية التربية بجامعة صنعاء، وأجبروهم على البقاء في المنازل، "لأنهم لم يطمئنوا لهم ولعملية تدريسهم مناهج الحوثيين، وهم الآن بحكم المفصولين منذ أكثر من سنتين ونصف السنة".

الدكتور أحمد الدغشي
الدكتور أحمد الدغشي

ويشير إلى أن الحوثيين فرضوا طواقم تدريسية من غير المؤهلين، و"يسعون بكل ما أوتوا من قوة ليؤهلوا عناصرهم والموالين لهم ولو شكليًّا، ليحلوا محل العناصر الكفؤة التي هي الآن ما بين مفصول ومشرّد، وهناك العشرات إن لم يكن المئات من الأكاديميين في الجامعات اليمنية، مشردون ما بين الداخل والخارج".

يؤكد الدغشي الذي اضطر إلى مغادرة صنعاء عقب سيطرة الحوثيين عليها، أنهم قاموا بوضع مقررات جديدة، أضافوها إلى المقررات الأربعة التي أرستها مؤسسة اتحاد الجامعات العربية، "لكي يمرروا مشروعاتهم، مثل مقرر "الصراع العربي الصهيوني"، وهذا المقرر يتبع الأجندة الإيرانية.

كما حوّلوا مقررات الثقافة الإسلامية من صيغتها القديمة إلى نسخ مرادفة، تكاد تكون متطابقة في كثير من النصوص مع ما يريده "حسين الحوثي"، الزعيم السابق لجماعة الحوثيين.

يذكر موقع "The Media Line" الأمريكي، المتخصص بأخبار الشرق الأوسط، في تقرير نشره في منتصف شباط/ فبراير 2023، أن المناهج التي يفرضها الحوثيون على الجامعات اليمنية في مناطق سيطرتهم، كمقرر "الصراع العربي الصهيوني"، إلزامية لطلاب درجة البكالوريوس في الجامعات العامة والخاصة، ويلقي محاضراتها "مقاتلون وقادة عسكريون لا يحملون مؤهلات أكاديمية".

وأشار الموقع إلى أن هذه المقررات التي تشرف عليها الدائرة الثقافية لدى الحوثيين، "تعزز الصراع مع السعودية ومع أي شخص يختلف مع الحوثيين، وحولت بعض الطلاب إلى مقاتلين داعمين لها بعد أن غسلت أدمغتهم".

ويعتمد الحوثيون في أنشطتهم بالجامعات الحكومية والأهلية، على عدد من الكيانات والملتقيات، في التجنيد والاستقطاب والسيطرة على الطلاب والإشراف على أنشطة وفعاليات الجامعات، بينها "ملتقى الطالب الجامعي" وهو كيان طلابي أنشئ في 2012 في جامعة صنعاء من قبل الحوثيين، قبل أن يتم تعميم نشاطه على معظم الجامعات في مناطق سيطرتهم خلال السنوات الأخيرة، ليصل عدد أعضائه إلى 794.

وحصل "إرم نيوز" على وثائق مسرّبة من تقرير سنوي رفعه مسؤول "ملتقى الطالب الجامعي" بجامعة العلوم والتكنولوجيا" الأهلية بصنعاء، إلى جهة غير معروفة، تكشف عن مهام الملتقى المنجزة في إنشاء قاعدة بيانات الطلاب ورفع بيانات الراغبين منهم بالالتحاق بـ"المسيرة القرآنية" – مشروع الحوثيين - ومنع أي أنشطة احتجاجية والترصد لها، وبناء وتأهيل أعضاء ومنتسبي الملتقى ثقافيًّا وعسكريًّا.

وتواصل معد التحقيق مع مدير العلاقات العامة لدى مجلس الاعتماد الأكاديمي وضمان جودة التعليم العالي بصنعاء، المتخصص بتحسين نوعية التعليم العالي، لإيصال أسئلتنا المتعلقة بتدخلات الحوثيين، ومدى انسجامها مع معايير الاعتماد، إلى قيادة المجلس، لكنه اعتذر بعد أسبوع من المواعيد بسبب "كثرة انشغالهم خلال هذه الفترة"، ولم يرد على استفساراتنا حتى تاريخ نشر هذا التحقيق.

ملتقى الطالب الجامعي
ملتقى الطالب الجامعي
تكملة - ملتقى الطالب الجامعي
تكملة - ملتقى الطالب الجامعي

ويشير رئيس اتحاد طلاب جامعة صنعاء السابق، رضوان مسعود، المختطف مرتين من قبل الحوثيين إلى أن أدلجة المناهج التعليمية "من أخطر العوامل التي ستؤدي إلى إطالة الصراع، إذ تقوم جماعة الحوثي بالتأثير على الجهلاء والزجّ بهم في المعارك على اعتبار أنهم يواجهون أمريكا وإسرائيل، بينما جميع الضحايا هم يمنيون"، على حد قوله.

فصل الأساتذة

في أواخر العام 2018، أصدر رئيس جامعة صنعاء السابق، الدكتور أحمد دغار، المعيّن من قبل الحوثيين، قرارًا بفصل 117 من أعضاء الهيئة التدريسية بالجامعة ومساعديهم، دفعة واحدة، بعد سنتين على قرار سابق أصدره رئيس جامعة صنعاء الأسبق، الدكتور فوزي الصغير في العام 2016، بفصل 66 أستاذًا جامعيًّا، والقراران كانا بدعوى "تجاوزهم المدة القانونية لفترة انقطاعهم عن العمل".

قرار فصل الأكاديميين
قرار فصل الأكاديميين
تنبيه للمتغيبين عن العمل
تنبيه للمتغيبين عن العمل

وتشير شبكة "علماء في خطر - SAR"، الأكاديمية الدولية المتخصصة في حماية العلماء والطلاب المعرضين للخطر، في تقريرها السنوي الصادر عام 2020، إلى جملة من الانتهاكات وعمليات القمع لأعضاء الهيئات التدريسية والطلاب في اليمن، من بينها أن "مؤسسات التعليم العالي الخاضعة لسيطرة الحوثيين، تعاني ضغوطًا واسعة النطاق، تهدد الحرية الأكاديمية للعلماء والطلاب، وتقضي على الاستقلال المؤسسي، الذي تحتاج إليه الجامعات؛ ليس لتقديم تعليم عالي الجودة فقط، ولكن لحماية نفسها من التدخل السياسي والأيديولوجي الذي يمكن أن يثير عنف الجهات التابعة للدولة أو غير التابعة لها، أو يغذيه".

خريطة الجامعات اليمنية ومناطق السيطرة
خريطة الجامعات اليمنية ومناطق السيطرة

وبحسب تقرير شبكة "SAR"، فإن الأكاديميين والإداريين المفصولين، غالبًا ما كان يتم استبدالهم بالموالين للحوثيين، الذين يفتقدون لمؤهلات وخبرات الأعضاء السابقين، "وهو ما يهدد جودة التدريس والبحث".

وقالت "SAR" إن الأساتذة الجامعيين في اليمن، يُجبرون على "منح درجات النجاح للطلاب الذين يقاتلون من أجل الحوثيين أو غيرهم من القوات المسلحة، أو الذين يشغل أعضاء أسرتهم مناصب بارزة في فئة مماثلة".

تراجع الأداء

بموازاة ذلك، تشهد الجامعات الحكومية رغم مجانية التعليم فيها، تراجعًا في مستوى الجودة الأكاديمية والأداء، تزامنًا مع حالة عزوف طلابي عن الالتحاق بالجامعات لأسباب مختلفة، معظمها يتعلق بمفرزات الحرب والحالة الاقتصادية وغياب التوظيف للخريجين.

انفوغرافيك يوضح نسبة التدريس لطلاب جامعة صنعاء
انفوغرافيك يوضح نسبة التدريس لطلاب جامعة صنعاء

وتقبع غالبية الجامعات اليمنية منذ تأسيسها خارج أبرز مؤشرات التصنيف الدولية المعتبَرة لجامعات العالم، والمختصة بمعايير الجودة التعليمية والأكاديمية وعلى مستوى البحوث العلمية.

ويرى الأكاديمي في كلية الهندسة بجامعة صنعاء، الدكتور رياض الصالح (اسم مستعار)، أن الحديث عن التزام الجامعات اليمنية بمعايير الجودة والاعتماد الأكاديمي، في ظل الظروف الحالية" هو حديث خرافة بامتياز، إذ إن الاعتماد الأكاديمي يقوم على مصفوفة متكاملة من معايير الجودة، منها ما يتصل بالمضمون ومنها ما يتصل بالشكل".

ويشير إلى عدم منطقية البحث عن الجودة والاعتماد الأكاديمي حاليًّا، في وقت لم يجد فيه الأكاديميون مرتباتهم الشهرية، وتغيب فيه مقومات الحياة الأساسية الكريمة.

وفي ورشة أقامتها منصّة "طالب يمني" المختصة بالتعليم، أواخر الشهر الماضي عبر تطبيق "زووم"، قال نائب عميد كلية الحاسبات والمعلوماتية بجامعة ذمار اليمنية (تحت سيطرة الحوثيين)، وعميد مركز التطوير وضمان الجودة بجامعة "جينيس للعلوم والتكنولوجيا" المحلية، الدكتور خالد الحسني، إن هناك بعض الطلاب اليمنيين من خريجي الجامعات المحلية، يتجهون للعمل في الخارج ويشكون من عدم التعامل مع شهاداتهم كما ينبغي في بعض الدول الإقليمية، بسبب عدم حصول الجامعات اليمنية على أي تصنيف عالمي، وأن ما يعطي شهادتهم الصلاحية "هو ختم وزارة التعليم العالي".

وأشار إلى ما يتم الترويج له من مزاعم عبر الإعلام المحلي، بأن هناك جامعات محلية دخلت في تصنيفات عالمية، هو أمر "لا صلة له بالواقع"، وذلك في إشارة إلى الأنباء التي تتحدث عن تقدم جامعة صنعاء في مرتبة تصنيف موقع "Webometrics" الإسباني، الذي قال إنه مهتم بالمعيار الإلكتروني، كموقع الجامعة بدرجة أساسية؛ ما يجعله يضيف إلى قوائمه أي جامعة لديها موقع إلكتروني بغض النظر عن مدى قوة الجامعة في الجوانب الأكاديمية أو البحثية.

ترتيب الجامعات اليمنية
ترتيب الجامعات اليمنية

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com