أكاديميون من جامعات يمنية
أكاديميون من جامعات يمنية إرم نيوز

من بناء الأجيال إلى بناء الطوب.. نزيف الكفاءات الأكاديمية اليمنية

وجد الأستاذ الجامعي اليمني، إياد المشرحي - الحاصل على درجة الدكتوراه بامتياز- نفسه يناول ربّ عمله البنّاء، سطلًا مليئًا بالإسمنت، ولا تكاد تمضي بضع دقائق حتى يعود إليه محملًا بأحجار الطوب، ثم يلتقط السطل مرة أخرى ليعيد ملأه، في مشهد يومي يتكرر باستمرار، بعيدًا عن قاعة المحاضرات التي عاش سنوات يكافح من أجل تحقيق حلمه للوصول إليها كأستاذ جامعي، يسهم في بناء أجيال متعلمة تخدم المجتمع.

اضطر أستاذ مساق "الأدب اليمني" في قسم اللغة العربية بكلية التربية التابعة لجامعة عدن، بمحافظة الضالع، لخوض جولة شاقة بحثًا عن عمل إضافي، يسدّ به رمق أسرته، نظرًا لعدم تسوية وضع مرتّبه الشهري، الذي بقي عند درجة البكالوريوس، بمبلغ 78 ألف ريال يمني (54 دولارا) رغم حصوله على درجة الماجستير.

ويقول المشرحي لـ"إرم نيوز"، إنه عمل كبائع للمشتقات النفطية في السوق السوداء، ثم انتقل إلى بيع نبتة "القات" الشهيرة في اليمن، قبل أن يصبح أخيرا مساعد بنّاء بأجر يومي زهيد، حتى يتمكّن من مواجهة شظف العيش ومتطلبات أسرته الضرورية، في ظل أوضاع اقتصادية متردّية لا يستطيع مجابهتها.

يشكو الأكاديميون اليمنيون، من تجاهل الدولة لمطالبهم برفع رواتبهم ما دفع مجلس نقابة هيئة التدريس بجامعة عدن، جنوبي اليمن، لتنفيذ إضراب شامل عن العمل ووقف العملية التعليمية أواخر العام 2021.

تصل أعداد المعيّنين أكاديميا في جامعة عدن الحكومية وحدها، إلى أكثر من 927 أكاديميًا، يمارس الكثير منهم عملهم التعليمي منذ نحو عقد، دون تعزيز مالي، وفق رئيس اللجنة التنسيقية العليا للمعينين أكاديمياً بجامعة عدن، علي القحطاني.

منذ عقود مضت، يواجه اليمن هجرة الآلاف من كوادره الأكاديمية من مختلف الجامعات المحلية، إلى الخارج، لكن وتيرة الهجرة ارتفعت خلال سنوات الحرب؛ ما أدى إلى تفاقم التحديات التي يواجهها قطاع التعليم العالي واستمرار التراجع في أدائه ومخرجاته.

في هذا الجزء الاستقصائي الثاني، يواصل "إرم نيوز" فتح ملف هجرة الكوادر الأكاديمية اليمنية إلى الخارج، في مناطق سيطرة الحكومة الشرعية هذه المرة، كاشفًا عن أسبابها ونتائجها وتأثيراتها على العملية التعليمية الجامعية، بشكل يهدد مستقبل اليمن.

تهديد واعتداء

عقب بضعة أيام فقط على تعرّض كلية الآداب بجامعة عدن، لهجوم مسلّح قتل على إثره أحد أفراد أمن الكلية وأصيب زميله الآخر في العام 2018، تلقّى أستاذ الفلسفة والنائب الأكاديمي للكلية، الدكتور قاسم المحبشي، تهديدات أجبرته على مغادرة البلاد.

في بداية الأمر، استقبل الدكتور المحبشي، رسائل تهديد عبر تطبيق "واتس آب"، ولم يُعِرها اهتمامًا، لكن الاتصال الهاتفي الذي تلقاه بعد ذلك، كان له وقعٌ آخر.

"شخص مجهول، أخبرني بأنني مطلوب، وأن عليّ تجهيز رأسي، حاولت الاستفسار منه علّه مخطئ في الرقم، لكنه سألني: أنت قاسم المحبشي؟، فقلت نعم. فقال: والله العظيم سنخفيك من على وجه الأرض. سألته عن سبب ذلك وعن هويته، فصرخ بصوت متوحش فيه تهديد ووعيد قائلًا: نحن الدولة الإسلامية ستعرفنا حينما ترانا!. أصبت بالخوف والذهول، فأنهيت المكالمة"، كما يقول المحبشي.

هذا الاتصال والرسائل المتكررة، بالإضافة إلى الظروف الأمنية الهشّة، جعلت الأستاذ الجامعي يشعر بالقلق من خطورة التهديد وجدّيته، في ظل استمرار مسلسل جرائم الاغتيالات التي شهدتها عدن خلال السنوات الماضية، وأسفرت عن مقتل العشرات من الكوادر والقيادات السياسية والعسكرية والأكاديمية والمدنية والدينية.

يؤكد الدكتور المحبشي لـ"إرم نيوز"، عدم وجود أي مشكلات شخصية له مع أي شخص أو جماعة أو مؤسسة، وأن ذلك الاتصال، جعله يختفي عن المجال العام في اليمن لبعض الوقت، قبل أن يغادر بعدها نحو العاصمة المصرية القاهرة، التي يمارس فيها حاليًا نشاطه الأكاديمي والمدني.

ونجح أستاذ الفلسفة بجامعة عدن، في الحصول على فرصة للتفرغ العلمي في جامعة القاهرة، قسم الفلسفة بكلية الآداب، منذ العام 2020، جددها عدة مرات، وتمكن خلالها من إنجاز الكثير من المشاريع البحثية، وأصدر أربعة كتب، وثلاثة دواوين شعرية، كما حصل خلال فترة إقامته في القاهرة على عضوية عدد من الاتحادات والهيئات العربية، وشارك في عدد من المؤتمرات العلمية والندوات الثقافية في القاهرة وخارجها.

ووسط حالة الفوضى الأمنية، باتت مؤسسات التعليم العالي في مواجهة مباشرة مع تحديات أمنية تهدد سير العملية التعليمية، وتستهدف كوادرها، إذ أصيب رئيس جامعة تعز، الدكتور محمد الشعيبي، وقتل مرافقه في محاولة اغتيال تعرّض لها في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 2018، وسط مدينة تعز.

كما تعرّض القائم بأعمال رئيس الجامعة، الدكتور رياض العقاب، في حزيران/ يونيو 2021، لعملية اعتداء من قبل ضابط لدى قوات الجيش اليمني بالمحافظة، في وقت تحوّل فيه مبنى كلية الطب بجامعة تعز، إلى مقر لقوات اللواء الخامس حماية رئاسية، بدعوى وقوعه في خطوط النار.

ونجا نائب رئيس جامعة عدن لشؤون الدراسات العليا والبحث العلمي، الدكتور، محمد عقلان، أواخر العام 2021، من محاولة اغتيال، إثر إطلاق مسلحين مجهولين النار عليه بمديرية المنصورة، شمالي عدن، ما أدى إلى إصابته، في حين تعرّض منزل رئيس جامعة عدن، الدكتور الخضر ناصر لصور، في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 2020، لاعتداء وحصار من قبل طلاب غاضبين على خلفية رفضهم في برنامج السنة التحضيرية، فضلًا عن عمليات قتل واغتيالات طالت عددا من أساتذة الجامعات، كان آخرهم الدكتور عبدالله القيسي، أواخر كانون الثاني/ يناير المنصرم، شرقي مدينة تعز.

فساد وإهمال

لا يخفي الأكاديمي، محمد النعماني، اللاجئ في بريطانيا منذ 13 عاما، رغبته في العودة إلى جامعة عدن وتقديم ما لديه من معرفة، في حال تحسنت الظروف وارتفع مستوى جودة التعليم العالي فيها، وأُزيلت معوقاته، وتخلصت الجامعات الحكومية من حالة الفساد المستشرية التي قال إنها "دفعت الكثير من الأساتذة إلى الهجرة أو التوجه نحو جامعات أخرى".

وفُصِل النعماني من جامعة عدن في العام 2009، بقرار يصفه بـ"التعسّفي" من رئيس الجامعة الأسبق، عبدالعزيز بن حبتور - رئيس حكومة الحوثيين حاليًا، بسبب "نشاطي السياسي ضمن حركة المعارضة الجنوبية في الخارج".

وقال النعماني، الحاصل على درجة الدكتوراه في فلسفة العلوم السياسية والعلاقات الدولية، من جامعة سانت بطرسبرغ، بروسيا، لـ"إرم نيوز"، إن حالة الإهمال والحرمان والظلم التي يتعرض لها الأكاديميون في الجامعات اليمنية، هي من أبرز أسباب هجرتهم إلى الخارج.

يؤكد النعماني، أن "الأبحاث العلمية والدراسات والمحاضرات الأكاديمية دائمًا ما تُغلّف بطابع سياسي، وأحيانًا استخباري، فضلًا عن تحويل الجامعات إلى مؤسسات أمنية واستخباراتية، إذ يجد المدرس الجامعي نفسه معتقلًا أو محرومًا من عملية الترقية الأكاديمية والعلمية، بسبب آرائه الأكاديمية والعلمية التي يُفترض أن تُحترم وأن لا يتم تسييسها وأن لا تخضع للرقابة والعقاب من قبل جهات الدولة أو رئاسة الجامعة".

واعترف وزير التعليم العالي والبحث العلمي، لدى الحكومة الشرعية، الدكتور خالد الوصابي، في حوار صحفي سابق مع إحدى الصحف المحلية منتصف العام الماضي، بوجود فساد مالي وإداري وأكاديمي في الجامعات، وقال إن البعض "اعتبر الجامعات عزبة خاصة".

تنفير من الدولة

من خلال الاستطلاع الذي شمل 32 أكاديميًا يمنيًا على مدى جزئي هذه المادة الاستقصائية، ثمّة إجماع على أن الدولة تسهم بشكل فعّال في خلق بيئة طاردة للأكاديميين المحليين، من خلال عدة عوامل، أبرزها انعدام تمويل مؤسسات التعليم العالي وغياب الميزانيات التشغيلية باستثناء بند الرواتب في مناطق سيطرة الحكومة، والتي تغيب في مناطق سيطرة الحوثيين منذ العام 2016.

يُضاف إلى ذلك، توقف التسويات المالية للمبتعثين العائدين إلى الداخل الذين حصلوا على درجة الدكتوراه، إذ ينتظرون ما لا يقل عن عامين وهم يستلمون رواتب تقدر بـ45 ألف ريال (أي ما يعادل 31 دولارا) ولا تتم تسوية أوضاعهم إلا بعد مرور هذه المدة، وبعد وصول التسوية فإنها لا تشمل العامين الماضيين، فضلًا عن توقف الزيادات المالية المقدرة بنحو 30 ألف ريال (أي ما يعادل 21 دولارا) للحاصلين على ترقيات علمية منذ قرابة 4 سنوات.

ويشير الأكاديميون المستطلَعة آراؤهم إلى أسباب أكاديمية ناتجة عن قصور الدعم الحكومي لعضو هيئة التدريس ومساندته على تجاوز الظروف الصعبة، وغياب دعم المشاريع البحثية الأكاديمية، وعدم تكفّل الدولة بمشاركاتهم الخارجية، ما يمنع عضو هيئة التدريس من ممارسة مهامه كما يجب.

كما يتفق الأكاديميون على أن الظروف الاقتصادية للبلد وانهيار العملة الوطنية، ضاعفت الأعباء لدى أساتذة الجامعات الذين فقدوا ما يزيد عن 80% من قيمة رواتبهم الشهرية، إذ كان يصل راتب الأستاذ الجامعي في العام 2014، إلى 1400 دولار، بينما يعادل اليوم 280 دولارا فقط، في وقت لا تتوفّر فيه فرص عمل أخرى يمكن لعضو هيئة التدريس أن يستعين بها لتحسين دخله.

وتطرق بعض الأكاديميين إلى أسباب أخرى اجتماعية، تتمثل في اكتظاظ الواقع الاجتماعي بالعديد من المشكلات والسلبيات وعدم توفر الخدمات الضرورية، والظروف الأمنية غير المستقرة، إلى جانب أسباب نفسية، مرتبطة بحالة الإحباط وعدم التقدير التي تجعل عضو هيئة التدريس يفكر في البحث عن بيئة مستقرة ليتمكن من العطاء بشكل أفضل.

تشير أستاذة التخطيط التربوي المساعدة بكلية التربية والعلوم والآداب، في فرع التربية بجامعة تعز، الدكتورة انشراح أحمد إسماعيل، في دراسة بحثية منشورة بمجلة "الآداب، للدراسات النفسية والتربوية" 2022، التي شملت عينة من (33) خبيرا أكاديميا من عدة جامعات، إلى أن العينة أكدت بنسبة 100% أن أزمات التعليم العالي أثناء الحرب الحالية، مختلفة تمامًا عن ما كانت تعانيه قبل اندلاع الحرب.

أولوية المعسكرات

خلال السنوات الأخيرة، بدأت الجامعات الحكومية معاناتها مع عزوف الطلاب عن الالتحاق بها، خاصة في كليات التربية والعلوم الإنسانية، نتيجة لأسباب مرتبطة بالوضع الاقتصادي إثر الحرب، وأخرى اجتماعية نظرًا لتراجع مكانة المعلم وبيئة عمله المستقبلي وضعف مردوده المادي وقلة الوظائف التربوية - وفق دراسات أكاديمية محلية – وهو ما يهدد العملية التعليمية برمتها ويقلص من أعداد المعلمين مستقبلًا.

واضطرت جامعة تعز إلى تعليق الدراسة في 6 تخصصات دراسية بكلية التربية، خلال العام الدراسي 2022/2023، بعد انخفاض أعداد المتقدمين، كما تراجعت أعداد الملتحقين بكليات الجامعة، بنسبة وصلت إلى 45%، إذ استقبلت خلال العام الدراسي الماضي نحو 4850 طالبا وطالبة، بعد أن كانت تستقبل 7500 طالب وطالبة خلال السنوات السابقة.

يقول الطالب، رضوان عبدالكريم (اسم مستعار) الحاصل على بكالوريوس في إدارة الأعمال من جامعة عدن عام 2014، إنه لم يتمكن من العثور على عمل في مجال تخصصه منذ قرابة تسع سنوات، واضطر للعمل منذ العام 2017 في ورشة نجارة، قبل أن يجد عملا مريحا العام الماضي، في بيع الأحذية في محل تجاري بمدينة كريتر.

ويشير عبدالكريم، الذي فضّل عدم الإفصاح عن هويته، إلى أن جاره في منطقة "العيدروس"، ترك الدراسة الجامعية عام 2018 بكلية العلوم الإدارية بجامعة عدن، بعد عامين من بدئها، وانضم إلى السلك العسكري حتى يتمكن من الحصول على مصدر دخل، بدلًا عن الأعباء المالية التي يحمّلها لأسرته أثناء تعليمه "حتى لا يكون مصيره نفس مصيري".

يؤكد أستاذ الفلسفة بجامعة عدن، الدكتور قاسم المحبشي، أن الحرب أعادت تشكيل المجتمع اليمني برمّته، "إذ بدلًا من أن تفتح أبواب الجامعات للشباب فتحت لهم معسكرات وجبهات قتالية، والتهمت الحرب عشرات الآلاف من الشباب الذين يفترض أن يكونوا في مدرجات الجامعة".

ويُلقي الطالب الحاصل مؤخرًا على درجة الماجستير من كلية الإعلام بجامعة عدن، عمر الشبوطي، باللوم على الحرب، التي قال إنها قضت على ما تبقى من الجانب التعليمي، ودفعت التعليم العالي نحو التسيّب، وضعف أداء الأساتذة "فالأداء مقرون بالوضع النفسي للدكتور، ولدينا 70% ممن يحملون درجة أستاذ مساعد رواتبهم لا تزيد عن 200 دولار، فبأي نفسية سيُدرّس هذا الأكاديمي؟".

وقال الشبوطي لـ"إرم نيوز"، إن أساتذة الجامعات لم يعد بإمكانهم تقديم أي جديد، إذ ألقى وضع البلد العام بظلاله سلبًا على العملية التعليمية، "ونحن في مساق الماجستير، كانت تمرّ ثلاثة أشهر ولم نتلق فيها سوى محاضرتين في بعض المواد، وذلك بسبب عدم حضور الأستاذ الذي امتلأ بهموم الوضع العام ومشاغله".

نزيف متواصل

تشير المعلومات التي حصل عليها "إرم نيوز"، من مكتب الشؤون الأكاديمية بجامعة عدن، إلى أن أعداد الأكاديميين المهاجرين والمنقطعين عن الجامعة وكلياتها في المحافظات الأخرى، وصلت حاليًا إلى 200 أكاديمي، أي بزيادة تصل إلى تسعة أضعاف عن عددهم قبل اندلاع الحرب عام 2015، وغالبيتهم من المبتعثين للدراسة.

فيما بلغت أعداد الأكاديميين المهاجرين من جامعة تعز، خلال سنوات الحرب 45 أكاديميا، بزيادة تصل إلى أكثر من ضعفين عن أعدادهم قبل الحرب، جميعهم أخذوا إجازات بدون راتب، فضلًا عن 99 أكاديميا تجاوزوا فترة الإيفاد للخارج ولم يعودوا، وفقًا لما ذكره القائم بأعمال رئيس جامعة تعز، الدكتور رياض العقاب.

وخلقت هجرة الأكاديميين وانقطاعهم عن التدريس، حالة من الإرباك لدى الجامعات الحكومية، إذ بات عليها الآن تعويض نقصان أساتذتها بكوادر أخرى لسدّ الفراغ، خاصة في التخصصات النوعية، وهي إشكالية تواجهها الجامعات في ظل توقف عمليات التوظيف الحكومي منذ سنوات، وفق ما يشير إليه مسؤولون في مؤسسات التعليم العالي.

نائب رئيس جامعة عدن للشؤون الأكاديمية، الدكتور عادل العبادي، قال لـ "إرم نيوز"، إن الجامعة استطاعت تعويض النقص في أعداد الهيئة التدريسية من خلال التعيينات الأكاديمية والإدارية التي حدثت خلال العامين 2016 و2017، والتي لا تزال حتى اللحظة دون أثر مالي.

لكنه يقرّ بأن هؤلاء المعينين ليسوا بكفاءة وخبرة المهاجرين والمنقطعين، كونهم لا يزالون في سنّ الشباب وفي مقتبل مشوارهم الأكاديمي، "جزء كبير منهم ممتاز ورائع، وهم يعملون بشكل مجاني، على أمل صدور قرارات تعيين مالي وخفض وإضافة".

يؤكد العبادي، أن آخر تعيين حدث في جامعة عدن وفق موازنة الدولة، كان عام 2013، إذ توقفت عملية التوظيف بشكل تام في الجامعة بعد هذا العام، لتُحرم جامعة عدن من توظيف 360 كادرا أكاديميا، على مدى تسع سنوات مضت، في حين أن هناك 237 من أعضاء هيئة التدريس لدى الجامعة توفاهم الله، خلال هذه الفترة، بينهم أكثر من 35 عضوا من نخبة الأكاديميين توفوا خلال جائحة كورونا مؤخرًا، إضافة إلى أن جزءا من أعضاء هيئة التدريس في جامعة عدن بلغوا الأجلين، بأعداد تصل إلى 500 عضو هيئة تدريس، غالبيتهم من مدرسي التخصصات العلمية النوعية، فضلًا عن المنقطعين والمهاجرين.

من جهته، قال القائم بأعمال رئيس جامعة تعز الدكتور رياض العقاب، إن تأثير هجرة الأكاديميين على التعليم الجامعي كبير جدًا، "فالجامعات الخارجية تسعى إلى استقطاب أفضل الكوادر العلمية بلا شك، مما يفقد الجامعة خيرة كوادرها الأكاديمية، وأصحاب الخبرة الطويلة، كل هذا كان له الأثر على بعض التخصصات النوعية مثل الهندسة واللغة الإنجليزية، والطب والعلوم الصحية".

وتواجه جامعة تعز حاليًا شحّا في توفر المشرفين الأكاديميين من ذوي الخبرة، على طلاب الدراسات العليا. ويقول العقاب لـ"إرم نيوز"، إنه على الرغم من استمرار بعض الأكاديميين في الإشراف، "إلا أنه يصعب على الطالب التواصل مع المشرف كما لو كان موجودا".

يشير طالب الدراسات العليا، ماجستير علم اجتماع، بجامعة تعز، نشوان صادق، إلى قصور وقلة كفاءة الكادر الأكاديمي، في مجالات دراسية بالجامعات اليمنية، لأسباب عدة، بينها هجرة الكثير من الكوادر الأكاديمية المؤهلة إلى خارج البلاد.

وقال صادق لـ"إرم نيوز"، إن معظم الأكاديميين الذين لديهم فارق كفاءة في التحصيل العلمي، والأداء التدريسي، حصلوا على فرص للتدريس بالخارج خلال فترة الحرب.

وتعرّض طالب الدراسات العليا، ماجستير إدارة أعمال بجامعة تعز، أنس الأثوري، لصدمة، قال إنها جراء المستوى "المتدني" لبعض أعضاء هيئة التدريس، نتيجة عدم مواكبتهم للمستجدات العلمية وتقيّدهم بما يرد في المساقات التي مرّ على بعضها عقدين من الزمن دون تحديث، فضلًا عن غياب أساليب التدريس وطرق إيصال المعلومة لدى بعضهم.

مهاجرون.. على قيود الجامعات

من خلال التواصل مع العشرات من الأكاديميين المهاجرين إلى الخارج من الجامعات التي شملها الاستقصاء، لاحظ معدّ التحقيق أن البعض منهم يرفض الإدلاء بأي تعليق صحفي باسمه، ويفضّل عدم الكشف عن هويته رغم عدم وجود أسباب واضحة، خاصةً وأن جامعته تقع في مناطق سيطرة الحكومة الشرعية، ليتبين لاحقًا أن أسماء عدد منهم لا تزال موجودة على كشوفات الرواتب لدى الجامعات الحكومية، ما يعني أن حديثهم العلني حول الأمر، يجعلهم عرضة لإجراءات وقف المرتبات التي لا تزال سارية رغم انقطاعهم عن التدريس في الجامعات المحلية منذ سنوات.

ويؤكد القائم بأعمال رئيس جامعة تعز، الدكتور رياض العقاب، أن الجامعة بدأت باتخاذ الإجراءات القانونية، سواء فيما يخص المنقطعين أو الموفدين للخارج المتجاوزين لفترة الإيفاد، "إذ تم الاستغناء عن البعض منهم، ومستمرون في اتخاذ الإجراءات القانونية".

وأشار إلى استبدال 20 عضوًا من المفصولين من أعضاء هيئة التدريس، "من خلال الاستقطاب عن طريق الإعلان لبعض التخصصات النوعية".

وفي جامعة عدن، قال نائب رئيس الجامعة للشؤون الأكاديمية، إن هناك لجنة مشكلة لمعالجة أوضاع المنقطعين، الذين وصلت سنوات انقطاع بعضهم إلى 15 سنة، "تم اتخاذ قرارات بإنهاء خدمات بعضهم، في حين تم تصفير رواتب 186 عضو هيئة تدريس وهيئة مساعدة، ريثما يتم حلّ مشكلتهم نهائيًا".

وأكد الدكتور، عادل العبادي، أن الإجراءات لم تكتمل "لأننا لم نستطع إحلال بدلاء لهم من المعينين إداريا وأكاديميا، إذ تعتبر وزارة الخدمة المدنية أن التعيين بالإحلال مخالف للقانون".

وكشف نائب رئيس جامعة عدن، عن ضغوطات تفرضها جهات حكومية مختلفة على الجامعة، للحؤول دون اتخاذ إجراءات قانونية بحق بعض الأكاديميين المنقطعين، و"تصلنا توصيات عليا من رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء ومن أعضاء الحكومة والمحافظين وغيرهم، لأن العمل المؤسسي في الدولة غائب".

ولم ينظّم قانون الجامعات اليمنية الصادر عام 1995، ولا لائحته التنفيذية الصادرة عام 2007، إجازة التفرغ العلمي الأكاديمي، كما أنه لم يتطرق إلى الإجراءات بحق الأكاديميين المنقطعين منهم بشكل دقيق.

وحول قانونية هذه الإجراءات، يؤكد مدير الشؤون القانونية السابق لدى جامعة عدن، والمستشار القانوني الحالي لرئيس الجامعة، الدكتور هادي المنصوري، أن مدة التفرّغ العلمي سنة واحدة قابلة للتمديد لمدة ستة أشهر إضافية، في حين أن إجازة التفرغ من دون راتب تصل مدتها إلى سنتين أو ثلاث سنوات، وفق لائحة نظام وظائف وأجور أعضاء هيئة التدريس ومساعديهم في الجامعات اليمنية.

وقال المنصوري لـ"إرم نيوز"، إن مسألة فصل أعضاء هيئة التدريس والمدرسين المساعدين، بسبب الانقطاع، "يرجع إلى قانون الخدمة المدنية ولائحته التنفيذية باعتباره القانون العام لجميع الموظفين في حالة عدم النص عليه في قانون الجامعات اليمنية ولائحته التنفيذية، وهذا هو القانون الخاص للأكاديميين".

غياب الرقابة والتقييم

على مدى السنوات الماضية من عمر الحرب اليمنية، ظلّت مؤسسات التعليم العالي في مناطق سيطرة الحكومة، بعيدة عن الرقابة والتقييم في ظل غياب "مجلس الاعتماد الأكاديمي وضمان جودة التعليم العالي"، الذي شُكّل وفق القرار الجمهوري رقم (210) لسنة 2009، بصفته "جهة مسؤولة عن شؤون الجودة وتحسين نوعية التعليم العالي في الجمهورية اليمنية".

ومنذ بدء الانقسام الذي شهده اليمن عام 2015، بقي مجلس الاعتماد الأكاديمي يمارس نشاطه في صنعاء والمحافظات الخاضعة لسيطرة الحوثيين، بعيدا عن مناطق سيطرة الحكومة، التي لم تقم بدورها بإنشاء مجلس موازٍ أو رديف له، منذ انتقال وزارة التعليم العالي إلى عدن.

في حوار صحفي سابق، لوزير التعليم العالي لدى الحكومة اليمنية، الدكتور خالد الوصابي، نُشر في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي على موقع "الفنار للإعلام" المختص بالحياة الأكاديمية في العالم العربي، قال إن برامج الجودة والاعتماد الأكاديمي في اليمن متوقفة في الوقت الحالي، وإن وزارة التعليم العالي والتعليم الفني التي تعمل كوزارتين، "لديها موازنة صفرية، وتعتمد على 20% من آليات موازنة العام 2014، بميزانية لا تتعدى مليون دولار سنويًا".

ويؤكد وكيل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي لقطاع الشؤون التعليمية، البروفيسور خالد باسليم، أن مجلس الاعتماد الأكاديمي وضمان جودة التعليم الجامعي الموجود في صنعاء، "هو ملك للدولة، وليس ملك لأي سلطة كانت هنا أو هناك، وكل ما يصدر عنه نافذ، وهو لا يحمل أي صبغة سياسية وهو مختص بالأمور الأكاديمية، والقائمون عليه عامة هم زملاء لنا وأكاديميون محترفون مختصون في الجودة والمعايير على نحو سليم".

وقال باسليم، في مقابلة مع "إرم نيوز"، إن وزارة التعليم العالي منذ انتقالها إلى عدن، حاولت البدء بالإعداد لتأسيس هيئة لتحسين الجودة والاعتماد الأكاديمي أو مجلس رديف في مناطق الحكومة، انطلاقًا من الحاجة إلى وجود مجلس اعتماد معترف به دوليا، "وعملنا المفاضلة والآلية لانتقاء المتبقين من الأساتذة ذوي الخبرة العالية من كل الجامعات اليمنية، لكن للأسف الشديد جاءت أحداث العام 2019، وأجهضت هذا المشروع"، في إشارة للمواجهات الدامية التي شهدتها عدن والمحافظات المجاورة، إثر خلافات بين الحكومة اليمنية والمجلس الانتقالي الجنوبي.

وكشف عن وجود مشكلة حقيقية بالنسبة للتخصصات الطبية وتحديدًا تخصص الطب البشري، بعد أن اشترط الاتحاد العالمي للتعليم الطبي، وجهات أخرى ذات علاقة، عام 2023 - مع منح سنة إضافة للدول التي لا تزال في طور النمو - الحصول على اعتماد أكاديمي خارجي، "وإلا فإنه لن يكون هناك اعتراف بالشهادات، وبالذات في مجلّات وتخصصات الطب البشري وكل التخصصات الطبية والصحية، ولذلك جهودنا مستمرة في الحصول عليه وعلى اعتماد محلي أولا قبل الخارجي".

ووعد باسليم بأن تكون هناك عملية تقييم للجامعات وتصويب لأوضاعها خلال نهاية العام الجاري، أو بداية العام المقبل، "سيتم من خلالها البدء بالتخصصات الطبية، وبعدها الكليات المعنية بالعملية التربوية".

وفي معرض رده على سؤال حول الإجراءات التي قامت بها وزارة التعليم العالي للحدّ من تسرّب الأكاديميين اليمنيين إلى الخارج، قال باسليم إن ذلك يتطلب جهودًا مشتركة "ليس بمقدور الوزارة عمل أي شيء بمعزل عن المجلس الأعلى للجامعات ووزارتي الخدمة المدنية والمالية".

ووسط جملة التعقيدات السياسية وحالة الانقسام التي أنهكت البلاد، تواصل جميع الأطراف تغاضيها عن حالة التدني غير المسبوقة في التعليم العالي ومؤسساته وكفاءاته المتسربة، التي انعكست على ضعف مخرجاته المنفصلة عن واقع التنمية المطلوبة، وهو ما يقدم لمحة عمّا ينتظر اليمنيين من مستقبل قاتم وغير مبشّر خلال المرحلة المقبلة، عقب إحلال السلام وإنهاء الأزمة السياسية الحالية.

الأكثر قراءة

No stories found.
logo
إرم نيوز
www.eremnews.com