نساء في دارفور .. أنوثة معجونة بـ "طوب الكماين"
نساء في دارفور .. أنوثة معجونة بـ "طوب الكماين"نساء في دارفور .. أنوثة معجونة بـ "طوب الكماين"

نساء في دارفور .. أنوثة معجونة بـ "طوب الكماين"

ما يميز مدينة "الفاشر"، أكبر مدن إقليم دارفور غربي السودان، "الكماين" ذلك الاسم الشعبي الذي يُطلق على ورش تقليدية لصناعة الطوب تنتشر في ضواحيها، لكن الفارق هنا هو  أن أغلب عمال تلك الورش من النساء اللاتي شردتهن الحرب.

عندما اندلعت الحرب الأهلية في هذا الإقليم العام 2003 نزح الآلاف من قراهم؛ حيث اشتدت المعارك بين الحكومة والمسلحين إلى تخوم مدينة الفاشر، وكان أغلب النازحين من النساء اللاتي ترملن وتيتم أطفالهن.

آلاف من النساء ممّن فقدن من يعولهنّ وأطفالهن جراء الحرب اضطررن إلى البحث عن فرص عمل حتى لو كانت شاقة ولا تتناسب مع أنوثتهن.

ومع شُح فرص العمل لم تجد المئات منهن غير العمل في "الكماين" رغم محدودية أجورها اليومية التي لا تتسق مع عنائها الذي يتحاشاه حتى الرجال.

يبدأ العمل في "الكماين" بعجن الطين بعد خلطه بروث البهائم ثم صبه على معاول حديدية تعطي الواحدة منها الشكل المستطيل للطوبة الواحدة.

لكن ليس هذا ما يدمي أنامل النساء، بل المرحلة الثانية التي يقمن فيها بترصيص الطوب في مساحات واسعة مكشوفة تحت الشمس إلى أن تجف، ليبدأن بعد ذلك في رصها على مساحة بنحو 20 متراً مربعاً وبارتفاع يزيد على 10 أمتار.

تستلزم المهمة ترك فراغات بين الطوب الذي يبدأن رصه وكأنهن يشيدن سلماً حتى يتسنى لهن بلوغ الارتفاع اللازم، ومن ثم يحشين هذه الفراغات بحزم من الحطب يشعلن فيها النار.

تُترك النار مشتعلة طوال ساعات كي تساعد في منح قطع الطوب الصلابة اللازمة، وبعد ذلك تصعد النساء مجدداً إلى أعلى "الكمينة" (مفردة كماين) ليبدأن في إنزال الطوب ورصه من جديد ليكون جاهزاً للبيع إلى الزبائن.

ورغم العائد الكبير الذي يجنيه ملاك هذه "الكماين" من بيع الطوب، إلا أن الأجر الذي تحصل عليه العاملات "محبط" كما تقول "حواء إسحق" التي تعمل في هذا القطاع.

تعمل "إسحق" كسائر زميلاتها من السابعة صباحاً وحتى السابعة مساء دون فترات راحة تُذكر، ومع ذلك لا تجني أكثر من 20 جنيهاً لليوم الواحد وهو ما يعادل ١.٤ وفقاً لسعر السوق السوداء!

تقول "اسحق" للأناضول إنها فقدت زوجها في الحرب وليس لها سبيل سوى القبول بهذه الوظيفة "البائسة" لإعالة أطفالها الثلاثة.

وبكثير من الأسى تضيف "إذا تركت العمل هنا لن أجد وظيفة أخرى، وسيجد صاحب العمل واحدة تحل مكاني؛ لأن مئات المعدمات ينتظرن هذه الفرصة".

لا يختلف الوضع كثيراً بالنسبة إلى "قسمة إدريس"، لكن سنوات عمرها التي لا تزيد على 25 عاماً تجعلها أكثر قدرة على تحمل هذا التعب من زميلاتها المتقدمات في السن مثل إسحق.

كانت "إدريس" أكثر حيوية وهي تتحدث لمراسل الأناضول "العمل شاق لكن لو تركناه سنموت من الجوع (...) علي العمل لمساعدة أسرتي".

ليست "الكماين" ما يحز في نفس الفتاة العشرينية بل إنها فقدت فرصتها في التعليم؛ حيث نزحت قبل 10 سنوات مع أسرتها إلى هنا، وينبغي على كل أفراد الأسرة العمل لبناء حياتهم من جديد بعدما فقدوا كل أملاكهم في قريتهم المهجورة.

وتابعت "إدريس": "الحمد لله أمي وأبي يعيشان ويعملان، لكن أنا وشقيقي مضطران للعمل أيضاً لمساعدتهما في تربية إخواني الصغار ".

ليس هذا مبلغ المأساة عند "إدريس" التي وَأَدت الحرب حلمها في أن تدرس الطب بل إن إخوانها الصغار أيضاً ليس أمامهم فرصة الدراسة وعليهم العمل عندما تشتد سواعدهم حتى يساعدوا  في زيادة دخل الأسرة التي بالكاد تجد ما يسد رمقها.

"آدم محمد" الذي يملك واحدة من هذه "الكماين" يقر بأن الأجر الذي تحصل عليه النساء العاملات عنده لا يتماشى مع الجهد المضني الذي يبذلنه، لكنه لا يستطيع من الناحية الحسابية زيادة أجورهن حتى لا تخسر تجارته.

يقول محمد: "20 جنيهاً، مبلغ بسيط لكن أكثر من ذلك سأخسر؛ لأن تكاليف الإنتاج عالية والطلب على الطوب ليس كبيراً".

ويستخدم الميسورون من أهل مدينة "الفاشر" الطوب المصنوع في "الكماين" والإسمنت لتشييد منازلهم، لكن القسم الأكبر من السكان يقتصر على تشييد منازلهم على الطين والقش.

ويستأجر ملاك "الكماين" شاحنات لجلب التراب الذي يُصنع منه الطوب من مناطق خلوية بأسعار عالية؛ حيث تصلح أنواع محددة من التربة لصناعة هذا النوع من الطوب الذي ينافس الطوب المصنوع من الإسمنت الذي تنتجه ورش أخرى لكنها محدودة.

وبينما كانت الشمس قد غابت وبعد 12 ساعة قضتها "إدريس" في رص الطوب، ذهبت لتأخذ أجرها من مالك الكمينة، لكن هذا اليوم تحديداً كان سعيداً بالنسبة لها لأنه يوم الخميس حيث تتوافر لها الراحة يوم الجمعة قبل أن تبدأ السبت في عملها الذي "سرق أحلامها" كما قالت للأناضول.

الأكثر قراءة

No stories found.


logo
إرم نيوز
www.eremnews.com