"بشر بأحجام دقيقة يكبرون في تجاعيدي".. التجريب الشعري الميكروسكوبي

"بشر بأحجام دقيقة يكبرون في تجاعيدي".. التجريب الشعري الميكروسكوبي

يقدم الشاعر المصري محمود خير الله، صورًا شديدة الخصوصية والدقة، من خلال تناول الكائنات الصغيرة، في الطبيعة، خلال قصائده، وحياكة المشهد الشعري بواسطتها، ليكوّن تجربة شعورية مثيرة للدهشة، خلال مجموعته الشعرية "بشر بأحجام دقيقة يكبرون في تجاعيدي"، والصادرة عن منشورات المتوسط، 2023.

 فتكثر المشاهد الميكروسكوبية داخل شعر خير الله، يعمل من خلالها على نقل الصور المُلْمحة، المحملة بالمعنى.

هذه الثيمة الشعرية التي تقوم على البحث والتنقيب، مثل أن تخرج حصاة من بين حبات الأرز، فتعمل عين خير الله الشعرية على التنقيب والفحص، وأرجحة الأشياء، من أجل التقاط صورتها الأجمل.

ففي القشة المعلقة على حواف فم العصفور، حركة أخرى للحياة، حركة دقيقة، تضيف المزيد من المعنى في صناعة العالم وإكسابه المعنى.

تبقى لحظة خير الله الشعرية منساقة نحو التكبير والدقة في الرؤية، من خلال البحث عن أشكال أخرى من الصغائر

وإن مهمة الشعر، تجريد المشهد، ومن ثم تفكيكه، لتقديمه في قالب جديد، بهيئة التخييل والتعميق والتفسير، كما حدث مع القشة التي جاءت من فم العصفور، حياة صغرى، لتصير في يد الإنسان رحلة كاملة من المشاعر، يسترجع من خلالها المرء ذكرياته وآلامه، وحتى الجمال لا يغيب عن المشهد المتخيل.

يكتب خير الله في نص "كبيتٍ تحنّ إليه الذّكريات":

"هذه القشّة

الخارجة من قلبِ هذا العصفور،

ـ لا من فمه ـ

غادرتْ مستقبلها فجأةً

وسَقَطتْ في يدي،

هذه القشَّة

كبرت الآن

وصارت بيتاً تحنّ إليه الذكريات".

التجريب مع الساكن والمتحرك

وتبقى لحظة خير الله الشعرية منساقة نحو التكبير والدقة في الرؤية، من خلال البحث عن أشكال أخرى من الصغائر، والأجسام الدقيقة، تلك عدسة الشعر التي لا تتوقف عن التجريب مع الأشياء ساكنة ومتحركة.

فالساكن الصغير، مثل الغبار، هي الصورة التي تحمل المصير، للإنسان الهش، المثقل بالحمل في حياة المشقة.

والحركة العشوائية، دون معرفة الطريق، لكنه التقافز، والترامي، بين الأشياء، يصبح مصير الإنسان كلما زاد ضعفه واتسعت حيرته.

فيما يزداد صوت الألم في الداخل، فيراه الشاعر على هيئة النهر السائل الذي يصفف أجزاء الألم الصغيرة في الجسد، كأنها قطرات تتدحرج إلى العالم أخيراً.

أحمال

ويمكن رؤية المشقة والألم، من خلال الصور التي تجسد الأحمال التي يضعها الإنسان داخله خلال الطريق الطويل مع الحياة، فيكون المفتاح الطويل، المستخدم قديماً لفتح الأبواب، دلالة على رؤية الإنسان للحياة في الشيخوخة، فيكون الطريق محملاً بالاهتراء، مثلما يحمل المفتاح الصدأ وشحوب اللون.

فيكتب الشاعر في شذراته:"

قريباً

سوف يحملنا الهواء

ـ مثل حفنة من الغبار ـ

إلى بعيد.

...

أخشى ما أخشاه

أن يزدادَ طولاً

ذلك الصف

ـ الطويل جداً ـ

من الدموع

التي

لم

أذرِفْها

بَعد.

....

طويلٌ

وصدئ..

مثل مفاتيح البيوتِ القديمة،

هذا العُمر الذي أحمله على ظهري.

محاكاة

بينما كنا نطارد الحشرات الصغيرات التي تُفسِد أيامنا، كان بإمكاننا أن نرى النملَ يرقصُ مُحتفلاً بتلك الولائم القبيحة التي يواجه بها جوع الأيام المُقبلة

إن محاكاة الحياة من خلال الصغائر، يتم تجريبها شعرياً، بصور شديد الدقة، ولغة متسقة ولامعة، تحمل النبرة الشعرية الخاصة، ذلك ما يعمل عليه خير الله ليصنع بؤرة شعرية، تتمكن من التجديف مع القارئ، للأماكن الصغرى، التي لا يمكن عبورها إلا من خلال لحظة شعرية، وذلك عبر 64 صفحة من القطع الوسط.

يكتب الشاعر عن تجربته وأمه، والنمل في منزله:

"كنتُ أفهم أنها تتركنا نراقب النملَ لتعلمنا شيئا عن زرع الأمل.. لتقول لنا ـ على طريقتها ـ إن الكائنات الضعيفة عليها أن تتشبَّث بالحياة وألا تتوقّف ـ أبداً ـ عن العمل، وبينما كنا نطارد الحشرات الصغيرات التي تُفسِد أيامنا، كان بإمكاننا أن نرى النملَ يرقصُ مُحتفلاً بتلك الولائم القبيحة التي يواجه بها جوع الأيام المُقبلة".

مانيكان

فيما يتعامل محمود خير الله مع اللحظة بعد الموت بالمخيلة المتاحة حول الأشياء، مُرفقاً مع جمله الشعرية، صورًا تعبر عن حالة السكون خلال الحياة، فالمانيكان المجرد من المشاعر، يلوح كمنحوتة صناعية غير محببة، كونه يعبر عن الخوف والوحدة والسُّخرة في الحياة.

لا أريدُ

بعد أن أموتَ

أن أتحوَّل إلى “مانيكانٍ عجوز”

يقفُ وحيداً وراء الزجاجِ

كشبحٍ محشوّ بالقطن

خرج لتوِّه من الخدمة،

ليُمثِّل دورَه الأخير

في ذلك الفراغِ الملوّن

الذي تملأه البالونات.

فيحمل الشاعر هاجس الخوف ذاته من التكرار والجمود والتحجر، الذي يحمله ويخافه الإنسان في حياته.

ساعة حائط

وتمر ساعة الحائط خلال القصيدة، لتعبر عن بطء الزمن، ووقع الإنسان في فخ الإجبار على حركة الجسد وذبوله في الحياة، فلا يرغب الشاعر هيئة ساعة الحائط بعد الموت، فتبقى حركة عداد الندم والخبيات مصاحبة له بعد الموت.

لا أريدُ

بعد أن أموتَ

أن أُصبحَ “ساعةَ حائط”،

تنامُ في مكانِها عُمْراً كاملاً

من أجل أن تُحصي النّدم،

مع كل تكّة تمرَّ من العُمر،

لدرجةِ أنها

قد ترى اللصوصَ يدخلون خائفين،

ولا تستطيع

ـ حتّى ـ

أن تهشَّهم.

هشاشة

يلحظ من نبرة الشاعر، توقه إلى حرية أكبر، لم ينلها الإنسان في الحياة، مثل الخفة والتحليق، والبقاء في زوايا مرتفعة عن العالم

لكن الشاعر يحمل أمنيته، فيما بعد الموت، أن يكون في بيئة الهشاشة والخفة، من خلال كونه عصفورًا، داخل بيته الهش، في أعلى شجرة، يراقب اللغة ما بين السماء والأرض، وذلك التكامل ما بين أجزاء الحياة الصغيرة، وكأنما أراد تقديم الموت مرحلة جديدة من حياة الإنسان، يشعر خلالها، ويراقب ويتأمل لكن في حالة الصمت، وبالرغم من التواري، فإنه يبقى جزءاً من مكونات العالم الكبير.

ويلحظ من نبرة الشاعر، توقه إلى حرية أكبر، لم ينلها الإنسان في الحياة، مثل الخفة والتحليق، والبقاء في زوايا مرتفعة عن العالم، تمنحه الرؤية الأشمل، لفهم الكون وتفسيره.

يكتب خيرالله:

"إن كان ولابد

أن أكون شيئا

بعد أن أموت،

أتمنى أن أصبحَ عصفوراً نيلياً صغيراً،

يبني بيتاً هشّاً

فوق الشجرة العتيقة،

التي تُلقي برأسِها في النهر،

لأرى

ـ حتى وأنا أموت ـ

آخرَ قطرةِ ماء

أرسلتها العنايةُ الإلهية

وهي تذوبُ

عائدةً

إلى أمّها الأرض."

الأكثر قراءة

No stories found.
logo
إرم نيوز
www.eremnews.com