حسونة المصباحي في طريق عودته إلى ميونيخ
بعد عشر سنوات يعود بنا حسونة المصباحي إلى شوارع شهدت غربة دامت ربع قرن، مضارب عاش فيها حياته بالطول والعرض، فلم يكن الرجل حين غادر إلى ميونيخ أول مرة يحمل معه غير ما تبقى من قيروان كانت، وغير رائحة الشيح في أعالي الجبال البعيدة في قريته القصية، ولكن الرحلة هناك طالت ومعها تعددت التفاصيل التي حبّرها في مؤلفاته ومقالاته حينًا، وحكاها لصحبه حينًا آخر، حتى كانت فرصة العودة إلى ميونيخ بعد عقد من الغياب في كتاب صدر حديثًا عن دار آفاق بتونس تحت عنوان "العودة إلى ميونيخ ".
الرجل الذي يستغرق اليوم في كهولته يعود إلى ثلاثينيات عمره حين كانت ميونيخ ملاذه البلفاري من حرارة المدن المسرفة في لذع مبدعيها، والأوطان التي لا تقدر كفاءاتها.
عندما يعود كاتب مثل المصباحي إلى هناك لا ينقطع عن المشي في شوارع شهدت خطواته الأولى هناك، مستعيدًا بذاكرته العنقاء سنوات مرت وفضاءات شهدت صولاته وجولاته، وأحداثا بقيت عالقة في الذهن، هناك يسائل الأماكن عن الماضي مثل شاعر جاهلي يقف على الأطلال، ففي المدينة الأثيرة على قلبه ينفث المصباحي دخان السنين التي مرت بسرعة ، لكنها بقيت معرشة في ذاكرته كسنديانة، إذ يعود إلى الفضاءات التي كان تركها معيدًا رسم وجهه في المرايا حيث لا شيء يمنعه أن يكون هو كما كان، مقهى "أوازا "ومقهى "أنسوفاتا "الذي هرمت جدرانه فتمت إعادة ترميمه، أصدقاء الماضي، سابينا، جبال الآلب، بحيرة شتاربنارغ، كتاب لوي فرديناند سيلين، صديقه الفرنسي إكسيفر، الفتاة النيوزيلاندية التي لم يعد يحتفظ باسمها، ولكنه يحتفظ في ذاكرته بلون عينيها الخضراوتين الباردتين ووجهها الشاحب، أردموته هيللر، محمد بنيس، فؤاد رفقة، الثلج، بارالتيلوس، الأسترالية سوزان التي لها وجه أرنب بري، كتاب كونديرا وهو يتحدث فيه عن العظيم رامبو، ورغم أن المصباحي يرى أن الزمن يغير العباد والجماد، إلا أن كثيرًا من التفاصيل بقيت محافظة على شكلها الأول، وهذا مهم بالنسبة لكاتب يلتقط الهوامش ويطوعها ويختصرها في مشاهد محكية كما لو أنها رواية تعددت فصولها .
في رحلة العودة إلى ميونيخ يهرب بك المصباحي إلى الأخبار ملقيًا نظرة على الأحداث من حوله محاولا قراءتها على طريقته، فهو كائن كوني، ولذلك لا ينقطع عن نقد ما يحصل من حوله في بقاع الأرض كافة، ولكنه يعود دومًا إلى المنشأ، حيث الكد التونسي الذي عانى منه طويلا، وحيث لا شيء يمنعه من التصريح علنا بأن الذين نغصوا راحته هم من بني جلدته الذي لا هم لهم سوى قتل التفكير وصرف الكاتب عن العمل وإعاقة تقدمه.